
السيرة النبوية والمذهب العلمي
بقلم/ سليمان أبوبكر أولنريوجو فولارنمي
ماجستير التاريخ والحضارة -التاريخ الإسلامي- جامعة الأزهر الشريف
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن على نهجهم سار إلى يوم الدين.
وبعد، فقد ظهر في العصر الراهن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، من المنخرطين في صفوف الدعاة في بلاد يوربا(جنوب غرب نيجيريا الحالية)، حيث يثيرون شبهات حول القضايا الإسلامية لا سيما حول السيرة النبوية.
وبعد تمعّن في أسلوب تناولهم لحياة النبي- صلى الله عليه وسلم- ظهر لي أن مصادر شبهاتهم هي الكتب المؤلفة في المذهب العلمي، الأمر الذي دفعني إلى كتابة ورقات في نقد هذا المذهب بعينه، مع الإشارة إلى المصادر الصحيحة للسيرة النبوية النقية، والحمد لله رب العالمين.
التعريف بالسيرة :
وردت في اللغة العربية كلمات ترادف السيرة، ومنها: السنة، الطريقة، والحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره.
وللمعنى الأخير جاء قوله- سبحانه وتعالى- عن عصا موسى:
{قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [طه:21]. أي: سنعيدها في الحالة التي كانت عليها قبل أن تتحول إلى الحية.
والسيرة النبوية: عبارة عن طريقة حياة الرسول – عليه الصلاة والسلام- منذ أن كان في بطن أمه آمنة بنت وهب إلى وفاته.
ويشمل هذا التعريف الإرهاصات أيام كانت في بطن أمه- صلى الله عليه وسلم-، وفترات طفولته ورحلاته مع عمه.
وعملَه مع خديجة بنت خويلد والزواج منها، إلى أن صار نبيا، وكذلك حياته بعد البعثة.
وقيامه بالدعوة في حالتيها السرية والعلنية، وإلى هجرة أصحابه الأولى والثانية إلى الحبشة وما ناطت بها من العوامل.
ورحلته –صلى الله عليه وسلم – إلى طائف، وهجرته الكبرى إلى يثرب ( المدينة المنورة).
وما تلته من التشريعات والغزوات والمعاهدات إلى أن لحق بالرفيق الأعلى- صلى الله عليه وسلم-.
مصادر السيرة النبوية:
هناك مصادر يستقي منها كتاب السيرة النبوية معلومات صحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم-، ومن أهمها:
1. القرآن الكريم:
كان القرآن ولا يزال مصدرا أساسيا يتضمن قسطا كبيرا نقيا عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.
إذ أنه دستور كان يمشي على إشارته وضوئه – صلى الله عليه وسلم- ، وكانت آيات القرآن نُزِّلت منجّمة توجيها وإرشادا وتشريعا.
حسب تصرفات النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضوان الله عليهم أجمعين-.
قال الدكتور فتحي السيد:” فأسباب النزول للسور والآيات هي موضع أحداث التاريخ الإسلامي في القرآن الكريم،
والآيات والسور القرآنية إما مكية أو مدنية. فالتي نزلت على الرسول في مكة تناولت أحداث الدعوة من بعثته حتى هجرته إلى المدينة
كما نزلت آيات في الهجرة النبوية، وقد صورت ما حدث للرسول وصاحبه أبو بكر أثناء الرحلة إلى المدينة.
وما نزلت على الرسول- صلى الله عليه وسلم- في المدينة عرفت بالمدنية، وفي هذا الجزء تعرض القرآن لأهم الأحداث التي وقعت في المدينة،
ومن أشهرها غزوات الرسول الكبرى مثل بدر والخندق وغير ذلك من أحداث مثل بيعة الرضوان وفتح مكة، ولهذا يعتبر القرآن من أهم مصادر السيرة النبوية”.
2. السنة النبوية:
كان معلوما أن النسة كلمة تصدق على أقوال وأفعال وتقريرات النبي- صلى الله عليه وسلم-.
والبديهي أن تمثل مصدرا تثرينا بصورة كاملة دقيقة عن حياته- صلى الله عليه وسلم-، من علاقاته بأهل بيته، وبأصحابه من المهاجرين والأنصار، وبعلاقاته بغير المسلمين من اليهود المجاورين، وملوك زمانه من العرب وغير العرب كقيصر الروم وكسرى فرس والمقوقس حاكم مصر.
كل هذه مما نفيدها من السنة النبوية، ولذلك قال الدكتور فتحي:”تاريخ الرسول يتمثل في أعماله وأقواله.
فالسيرة والسنة النبوية كلمتان مترادفتان تعالجان معنى واحدا وقضايا واحدة، ولهذا كانت موضوعات السيرة النبوية جزءا من أبواب السنة النبوية تحت اسم السير والمغازي”.
ومن كتب السنة على سبيل المثال لا الحصر:
– موطأ الإمام مالك.
– صحيح الإمام البخاري.
– صحيح الإمام مسلم.
3. الشعر العربي المعاصر لعهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-:
ومن المصادر التي نفيد منها الحقائق العلمية عن حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- هي الأبيات الشعرية التي قيلت في عهده.
والشعر- كما يقال- ديوان العرب، ومن مزايا الشعر في ضبط المعلوات أنه لا يسهل تحريفه خلافا للنثر.
والسبب في ذلك أن للشعر أوزانا وقوافيَ كان لزاما الالتزام بها، ما عدا شرذمة قليلة لا يقاس عليها-، وليس ذلك في النثر.
وقد قال الشعراء في صدر الإسلام عن الرسول- صلى الله عليه وسلمم- أشعارا في أغراض متنوعة.
كما من أبرزهم حسان بن ثابت الذي سجل بأشعاره أدق أوصاف الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأهم حوادث مكة والمدينة.
وهو القائل عن يوم بدر الكبرى:
برجال لستمُ أمثالهم … أيّدوا، جبريل نصرا فنزل
وعلونا يوم بدر بالتّقى … طاعة الله وتصديق الرّسل
في هذين البيتين نلحظ أن حسان صور لنا حالة نزول الملائكة في غزوة بدر الكبرى، ويمثل شعره مصدرا من مصادر السيرة النبوية، وفي الوقت نفسه يمثل برهانا نمجّ به شبهة المنكرين لنزول الملائكة في غزوة بدر الكبرى.
وقد قال –أيضا- في رثاء الرسول- صلى الله عليه وسلم-:
بِطَيبَةَ رَسمٌ لِلرَسولِ وَمَعهَدُ مُنيرٌ وَقَد تَعفو الرُسومُ وَتَهمَدُ
وَلا تَنْمَحي الآياتُ مِن دارِ حرمَةٍ بِها مِنبَرُ الهادي الَذي كانَ يَصعَدُ
وَواضِحُ آثارٍ وَباقي مَعالِمٍ وَرَبعٌ لَهُ فيهِ مُصَلّى وَمَسجِدُ
بِها حُجُراتٌ كانَ يَنزِلُ وَسطَها مِنَ اللَهِ نورٌ يُستَضاءُ وَيوقَدُ
مَعارِفُ لَم تُطمَس عَلى العَهدِ آيُها أَتاها البِلى فَالآيُ مِنها تُجَدَّدُ
عَرَفتُ بِها رَسمَ الرَسولِ وَعَهدَهُ وَقَبراً بِها واراهُ في التُربِ مُلحِدُ
ظَلَلتُ بِها أَبكي الرَسولَ فَأَسعَدَت عُيونٌ وَمِثلاها مِنَ الجفنِ تُسعَدُ
في هذه الأبيات يمكننا الوقوف على نقاط هامة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-،.
كالرسوم التي رسمها في داره، وبأن هناك منبرا له، وفي هذا دليل على شدة قرب غرفة الرسول بمسجده.
وبداخل هذه المسجد بعض غرفٍ ينزل بها النبي- صلى الله عليه وسلم-، وهي الواردة في سورة الحجرات.
وفي النهاية ذكره لدفن الرسول بداخل داره- صلى الله عليه وسلم، ورضي عن صاحبيه أبي بكر وعمر وسائر موتى المسلمين-.
وتظهر لنا مما سبق أهمية الأشعار المقولة في العهد النبوي في نقل السيرة النبوية الدقيقة، وأن درجاتها عالية جدا لأمور، منها:
– أن هذه الأشعار كتبت في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ولو بها ما خالف الصورة الصحيحة للحادثة لنزلت في شأنها آية.
فقد نزلت الآية في حق الذين نادوا الرسول- صلى الله عليه وسلم- من وراء الحجرات، قال الله عنهم:
{ إِنَّ ٱلَّذِینَ یُنَادُونَكَ مِن وَرَاۤءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ}[سورة الحجرات/4].
والدعوة من وراء الحجرات أمر وقع لا شك أنه سينقطع فور وقوعها، لكن الله خلده بنزول الآية فيها، لأهمية ليس هنا محل ذكرها.
ولو تعرض الشعراء في تصوير الحوادث بغير صورتها الصحيحة فمن باب الأولى أن تنزل فيه آية.
لأن الأشعراء يطول عمرها، أو على الأقل أن نجد رواية قد صحح فيها أحد الصحابة ذلك الصحابي الشاعر.
4. كتب السيرة:
تعد كتب السيرة النبوية من أبرز المصادر للاطلاع على حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
ولو أنها تعد ثانوية بالنسبة للمصادر السابق ذكرها، وإن كان هناك تداخلا بين كتب السيرة وكتب السنة في تناول حياته- صلى الله عليه وسلم- إلا أن كتب السير كانت تأخذ شكلا من التفصيل والتفسير وربما الاستنتاج.
وقد اهتم الصحابة- رضوان الله عليهم- برواية السيرة النبوية، ونقلوها إلى من بعدهم من التابعين، وعندهم تم التدوين للسير.
قال الدكتور مصطى السباعي:”كانت وقائع السيرة النبوية روايات يرويها الصحابة- رضوان الله عليهم- إلى من بعدهم.
واختص بعضهم بتتبع دقائق السيرة وتفاصيلها، ثم تناقل التابعون هذه الأخبار ودونوها في صحائف عندهم، وقد اختص بعضهم بالعناية التامة بها، أمثال: أبّان بن عثمان بن عفان(32 – 105هـ) وعروة بن الزبير بن العوام(23- 93هـ)، ومن صغار التابعين عبد الله بن أبي بكر الأنصاري( توفي سنة 135هـ) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري(50 – 124هـ).
ومن أبرز أوائل كتب السيرة النبوية
– المغازي: لمحمد بن إسحاق بن يسار(توفي: 151هـ)على الصحيح، وقد اتفق جمهور العلماء والمحدثين على توثيقه.
إلا أن هذا المؤلف لم يصل إلينا غير ما ورد في سيرة ابن هشام والطبري.\
قال عنه الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق”.
وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحدا يتهم ابنَ إسحاق في حديثه.
كما قال شعبة بن الحجاج: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين، يعنى في الحديث.[وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان، 4/276).
– سيرة ابن هشام : لمحمد بن عبد الملك بن أيوب الحميري( توفي: 213 أو 218هـ) على اخلاف عند علماء التراجم. قال الدكتور فتحي:”فابن هشام أخذ سيرته من زياد البكائي الذي أخذ بدوره من سيرته من ابن إسحاق، وبما أن كتاب المغازي لابن إسحاق والذي وصل إلينا عن طريق ابن هشام والطبري له أهمية في السيرة بالنسبة للباحثين فلا بد من إعطائه فكرة عن منهجية”.
مزايا السيرة النبوية :
تذكر للسيرة النبوية عدة مزايا، ومنها:
1. أنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل، أو عظيم مصلح؛ لأنه وصلت إلينا سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن أصح الطرق العلمية وأقواها ثبوتا. فموسى الكليم- عليه السلام- قد اختلطت وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف، ولذلك قال الدكتور مصطفى السباعي:” لا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لموسى-عليه السلام، ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى – عليه السلام-“.
2. أن النبي محمدًا- صلى الله عليه وسلم- كانت حياته واضحة كل الوضوح في جميع المراحل منذ الولادة إلى رحلته إلى الرفيق الأعلى، خلافا لغيره من العظماء أو الأنبياء من أصحاب الكتب السماوية. وقد قال بعض النقاد الغربيين كما ذكره الدكتور مصطفى السباعي:”إن محمداً- عليه الصلاة والسلام- هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس”[السيرة النبوية دروس وعبر، ص6].
3. أن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان، فهي تحكي لنا سيرة محمد الشاب الأمين المستقيم قبل أن يكرمه الله بالرسالة، كما تحكي لنا سيرة رسول الله الداعية إلى الله الملتمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، فهو المثالي للموظفين وللأزواج وللآباء وللجيران، وللرؤساء، وللمتمسكين لجميع ما يشغله الإنسان مما هو خير.
المذهب العلمي في كتابة السيرة النبوية:
هو أحد المذاهب التاريخية الذاتية التي ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي، والذي يستحسن الكاتبون على غراره أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري أوالديني أو السياسي، في تفسير الأحداث التاريخية وتعليلها والحكم على أبطالها، بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية.
هدفهم: ويستهدف الكتّاب في هذا المذهب الإعراض عن كل ما يمتّ بصلة إلى الغيبيات وخوارق العادة التي لا يقف العلم الحديث منها موقفَ فهمٍ أو قبولٍ. قال البوطي: “ولقد كان لهم في الطريقة الذاتية في كتابة التاريخ خير ملجأٍ يعينهم على تحقيق ما قصدوا إليه”[فقه السيرة النبوية، ص23].
أبرز الكاتبين فيه: كتب في السيرة النبوية على المذهب العلمي الذاتي كتّاب، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
– محمد حسين هيكل القائل في كتابه (حياة محمد) : تحت عنوان: (في حدود السيرة لا أتعداها)
“وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالا وضياء يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر إذ كان كل منهما في خلافته علما يحجب سواه! وما أشدّ ما كان للسابقين الأوّلين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعد مما تفاخر به الأجيال، لكن هؤلاء جميعا كانوا يستظلّون أثناء حياة النبي بجلال عظمته ويستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل، هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم” [حياة محمد، ص24].
– محمد فريد وجدي: القائل في مقدمة كتابه (السيرة المحمدية على ضوء العلم والفلسفة):
“في هذا اليوم[أول المحرم سنة 1358هـ] فاتحة العام الهجري الحافل بالذكريات الخالدة عن الدعوة الإسلامية في دورها الحاسم؛ نبدأ في نشر دراسات متتابعة في حياة خاتم المرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم – على أسلوب جديد تحت ضوء العلم والفلسفة”[السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة، ص37].
ثم قال: ” ربما يخيل لمن يطلع على شرطنا إيراد السيرة النبوية على أصول الدستور العلمي أن جانب الإعجاز فيها سيكابد نقصا عظيما، إن لم يغفل إغفالا تاما، وإغفال هذا الجانب منها يجعلها أمرا طبيعيا، فتفقد النبوة صفتها المميزة، وتصبح سيرة النبي كسيرة أحد عظماء الرجال، وليكن من الممكن إثبات أنه أعظمهم، فتكون النتيجة سلبية من الناحية الدينية”.
فأجاب بنسه قائلا:” نقول: لا، فإننا إن سرنا على شرط العلم في إثبات الحوادث، وعزوِها إلى عللها القريبة، فإنه سيتألف من جملتها أمر جلل يقف العلم نفسه أمامه حائرا، لا يستطيع تعليل صدوره عن فرد واحد، وسيكون مضطرا بأن يعترف بأن محمدًا- صلى الله عليه وسلم- كان عبقريا من طراز خاص فاق به جميع العباقرة، وهذا كسب عظيم للقائلين بنبوته”[السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة، ص41].
نقد المذهب العلمي:
يظهر مما ذكرنا في الصفحات السابقة أن الهدف للمذهب العلمي الذاتي في تناول السيرة النبوية هو الإعراض والتناحي عن كيان النبوة وإثباته في كل ما قام به نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وهو ما تم ذكره في مصنفات أبطال هذا المذهب.
يستظلّون أثناء حياة النبي بجلال عظمته ويستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل، هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم” ألم تروا إعجابه البالغ وتركيزه المفرط على جانب عظمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وكيف تغاضى عن جانب نبوته؟
وقد ذكرنا- مما ليس ببعيد- قول محمد فريد وجدي الذي كان تنتقد نفسه ظنّا منه أنه يبرّر لمذهبه الجاف النائي عن مبادئ الإسلام، حيث يرى أن تناولَ معجزات النبي- صلى الله عليه وسلم- وقضايا الوحي والغيبيات بالمذهب العلمي والفلسفي هو أقرب وأنسب ما نقدر به على إقناع الغربيين والمستشرقين من أن نؤمن بها ونسلّم بها تسليما. فأين هو ومن على شاكلته من قوله تعالى- إن كانوا حقا مؤمنين-: { قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهࣱ وَٰحِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا}[الكهف/110]. وقال-أيضا- :{ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهࣱ وَٰحِدࣱ فَٱسۡتَقِیمُوۤا۟ إِلَیۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡمُشۡرِكِینَ}[فصلت/6].
فالآيتان السابقتان تؤكدان النبوة للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولا يحق لأحد أن يجرده أو ينزع عنه هذه النعمة التي اصطفاه الله بها بدعوى الدراسات العلمية الحديثة.
بعض ما قد يترتب على قبول المذهب العلمي الذاتي من آثار:
– النظر إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- نظرة عظيم من عظماء الدنيا الذي الخوف من أمره لا يتعدى مدى بصره، ويصبح تعاطي نواهيه في غيبه جائزا، والله يقول:{ وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ}[الحشر/7]. وقال – أيضا-: {وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا}[النساء/ 115]. وعدم العصيان – كما هو بيّن في الآيات السابقة- لا بد أن يكون في الحضر والغَيْبة.
– النظر إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- كرجل عبقري بل كبير العباقرة- كدعوى محمد فريد وجدي-، وهو أمر متباين للحقيقة. وقد جاء في الوسيط أن العبقري: نسبة إلى عبقر: وهو صفة لكل ما بولغ في وصفه وما يفوقه شيء. يقال رجل عبقري، وثوب عبقري. وإطلاق هذه الصفة على النبي- صلى الله عليه وسلم- ينبئ أن رسالته صنع يده وبنات عقله، وقد نفى الله عنه ذلك قائلا:{ وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ * إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ * عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ}[النجم/3-5].
– الكفر بالغيبيات؛ لأن كل ما لا يثبته العلم الحديث عندهم فلا وجود له، كقضية الإسراء والمعراج والجنة والنار.
ونستطيع أن نستخلص مما سبق:
1. أن السيرة النبوية معمل التجربة والتدريب للشريعة الإسلامية، وفيها تطبيقات رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم-، فلا تقبل الاستخفاف بها من أي أحد كان.
2. أن للسيرة النبوية مصادر نستقي منها الحقائق العلمية عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.
3. أن كل من يحاول إسقاط الوحيين فلا يلتفط إلى قوله، ويجب التحذير عنه بأي شكل من الأشكال.
4. أن ما أثبته الوحي للرسول من المعجزة يجب قبوله والإيمان به.
5. أن الاستفادة من الغرب في أمور الدنيا لا بأس بها؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وأما ما يفسد لنا ديننا فلا مرحب به.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السيرة النبوية والمذهب العلمي
المصادر والمراجع:
1. القرآن الكريم.
2. السيرة النبوية – دروس وعبر (الدكتور مصطفى السباعي).
3. فقه السيرة النبوية (الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي).
4. حياة محمد (محمد حسين هيكل).
5. السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة (محمد فريد وجدي).
6. في المنهجية الصحيحة للبحث التاريخي (الدكتور فتحي السيد عيد).
7. موقع الديوان (https://www.aldiwan.net/poem21547.html).
السيرة النبوية والمذهب العلمي
التعليقات