حكاية المثل الفرعونى .. “اكسر وراه قلة”

*أصل مثل.. اكسر وراه قلة*

كتبت : مريم محمد إسماعيل

كثيرًا ما كنت تجلس في المنزل وتتفاجئ بباب منزلك يُطرق؛ فتهب مسرعًا لتفتح الباب، وإذا بشخص ثقيل على قلبك لا تُطق مجالسته، وتطول الجلسة إلى أن يحين موعد رحيله؛ فتودعه وتغلق الباب وتتمنى لو كانت هناك قلة لتكسرها خلفه، فما هو مثل ” اكسر وراه قلة”؟ هل دار بخلدك يومًا ما أصل هذا المثل؟ وكيف ظهر؟ ولماذا قلة بالذات؟ لما لا تكسر خلفه طبق أو كوب؟

 *ما هو بادي الوضوح من هذا المثل* 

يشتهر الشعب المصري بعاداته وموروثاته اللطيفة، التي تظهر وقت الحاجة إليها مثل “اكسر وراه قلة”، وهو مصطلح يستخدمه المصريون حاليًا تعبيرًا عن فرحتهم بالخلاص من شخص غير مرغوب فيه، وفي لحظة خروجه نقول: “اكسر وراه قلة” متمنين عدم عودته مرة أخرى.

والقلة: هي نوع من الأواني الفخارية المستخدمة في مصر؛ لحفظ الماء وشربه وما زالت موجودة حتى الآن في بعض القرى؛ لأنها تمتاز بالبرودة الخفيفة التي لا تؤذي الأسنان كما تفعل مياه الثلاجة.

*استعمال المثل لأول مرة* 

يعود مثل “اكسر وراه قلة” لأكثر من 4000 سنة قبل الميلاد في مصر الفرعونية القديمة، وقد اُختُلف استعماله من عصر لآخر على مدار حكم الأسر الفرعونية.

ظهر ولأول مرة في حكم الأسرة 13 وتحديدًا في النصف الثاني، وعُرف هذا العصر بعصر “الانحطاط والاضمحلال”، ويعني انحطاط الإدارة واضمحلال النفوذ السياسي، أضف إلى قاموسك كثرة الصراعات داخل قصر الحكم وتمكن الهكسوس من الدخول إلى البلاد من الجانب الشرقي.

ولكن لم يكتف الأمر عند هذا الحد فحسب، أخذ الحكام يظلمون الطبقة العامة وولاة المدن والقرى يرهقون الشعب بالضرائب؛ فلم يجد الشعب في ذلك الوقت حلًا سوى التوجه بالشكوى للكهنة، فأين المفر من حكام ظالمين؟

فكر الكهنة كيف يلبون طلبات الشعب اللاجئ لهم؛ فابتكروا طريقة كانت فريدة من نوعها -في ذلك الوقت- حيث كانوا ينحتون الأواني الفخارية على شكل الحكام الطغاة، ويكتبون على ظهرها بعض اللعنات والتعاويذ باللون الأحمر، ويبيعونها للناس في الأسواق ويطلبون منهم ملئها بالماء وكسرها، اعتقادًا منهم أن ذلك التكسير الرمزي سوف يكسر عزائم الطغاة ويقصف أعمارهم.

*حتى الملوك نفسها مارست ذلك الفعل*

ظل هذا الفعل يُمارس لوقت طويل في مصر الفرعونية، ومع تعاقب الأسر وصولاً إلى الأسرة 18 -خاصة- في عهد الفرعون المصري “امون حتب الثالث” وجد على جدران أحد معابده، رسم له وهو يكسر مجموعة من القلل خلف جيش الأعداء الذي كان يفر من مصر، ويرمز ذلك بأنه لا يتمنى رؤيتهم على الحدود المصرية مرة أخرى، وأنه في حال عودتهم سيتولى الجيش المصري صدهم والدفاع عن حدود البلاد.

 *يبقى المثل ولكن يتغير المراد* 

ومع مرور الزمن تغير المقصود من هذا الفعل، وأصبح كسر القلة عادة جنائزية بحتة، فإن أل بك الحال إلى مشاهدة أحد الأفلام التي تروي قصص الفراعنة؛ ستلاحظ في الجنازات أن عائلة المتوفي وخاصة النساء، يقفون خلف جثمانه ويجهشون بالبكاء، وفجأة يبدأون برمي القلل وكسرها، ستفزع على الفور من هذا المشهد ولكن لم يكن مقصد أفراد عائلته -في ذلك الوقت- تمنيهم رحيله، ولكن ظهر معتقد جديد في حياة المصري القديم، حيث كانوا يعتقدون أن “الكا” لا تعود مرة أخرى إلى منزل المتوفي ولا تؤذي الموجودين بالمنزل إذا تم كسر القلل، و”الكا” تعني الروح.

فكان المصريون القدماء يعتقدون أن بكسرهم القلة خلف المتوفي ودفن بقايا ذلك الكسر مع جثمانه، هم بذلك قد منعوا روحه الشريرة من العودة إليهم.

وقد عثر علماء الآثار أثناء تنقيبهم في المقابر على آثار لمجموعة من الأواني الفخارية المكسورة؛ والذي يعني بدوره أن هذا مكان أثري.

وقالت عبير فؤاد، خبيرة الأبراج: “لقد عثر المصري القديم على طقوس خاصة بالتدمير والهلاك من خلال المصطلح الهيروغليفي “سد، دسر، وت” وكلمة “سد” تعني كسر، بينما “دسر” تعني اللون الأحمر، وتعني “وت” جمع إناء، فيكون المعني “اكسر الآنية الحمراء”.

وكان الفراعنة يستعملون اللون الأحمر في كتابة التعاويذ بإعتباره من الألوان الشريرة والمهلكة لارتباطه بالقتل والدم.

 *انتشار عادة كسر القلل* 

لم يقتصر المثل على الفراعنة فحسب بل انتقل للعصر اليونانى والرومانى ولكن بطريقة مختلفة، فكانوا يحضرون الآواني الفخارية في الجنازات ويأكلون فيها وعقب الانتهاء يبدأون بكسرها خلف جثمان فقيدهم.

انتقلت -أيضًا- عادة كسر القلل إلى العديد من البلدان العربية ومنها المغرب.

وتترك تلك الآواني “شقف” وتعني “قطع” من الفخار عقب كسرها ومن هنا جاء اسم مقابر “كوم الشقافة” بالاسكندرية.

وما زالت تلك العادة تتبع في بعض القري ومناطق الصعيد.

التعليقات