
ضعف الإمكانيات ليس سببا للانهزام
بقلم/ عمرو عبدالرحيم سليمان
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف
إن الناظر إلى الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي لم يكن ليتوقع أن تخرج قوة من هذه الصحراء القاحلة تغير مجرى التاريخ.
وتتمكن من هزيمة أقوى إمبراطورتين في الوقت الإمبراطورية البيزنطية الإمبراطورية الفارسية.
وتتمكن هذه القوة الناشئة في ظرف أعوام أن تجرد الإمبراطورية البيزنطية من ممتلكاتها في مصر والشام وبلاد المغرب.
وتقضي على الدولة الفارسية وتتمكن من قتل آخر ملوكها وإسقاطها في ظرف عشرين عاما فقط.
واستطاعت هذه الدولة أن تتوسع حتى وصلت إلى كاشغر على حدود الصين شرقا.
وإلى حدود المحيط الأطلنطي غربا وبلاد النوبة جنوبا، وشبه الجزيرة الإيبيرية – الأندلس- شمالا محققة كل هذه الانجازات في أقل من قرن من الزمن.
هؤلاء المسلمون الذين خرجوا من الجزيرة العربية كانوا يعتزون ويفخرون بما يحملونه من رسالة سامية، هدفها إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ورفع الظلم والبطش عن كاهل المقهورين، بالإضافة لأخلاق العروبة التي ورثوها عن آبائهم من الشجاعة والنجدة.
حتى أن أول آية نزلت لتشريع القتال تحدث عن وجوب رفع الظلم عن هؤلاء المظلومين الذين قتلوا وأخرجوا من ديارهم وأمولهم
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) آية 39 سورة الحج
ضعف الإمكانيات ليس سببا للانهزام
فلما جاء الإذن لهم بالقتال نشطوا في الدفاع عن أنفسهم أمام عدوٍ متغطرسٍ منتشٍ بقوته العسكرية.
فكان اللقاء الأول بين الطرفين في بدر والمواجهة ليست متكافئة بين الفرقين.
فلك أن تتخيل أن ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتل واجهوا ألفا، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسين اثنين فقط مقابل ما يزيد على مئة فرس مع المشركين.
بل وجد من بين المسلمين من يقاتل لأول مرة في حياته ويحمل سيفا في مواجهة صناديد قريش وعتاتها من المقاتلين المتمرسين في القتال.
أمثال عمرو بن هشام- أبو جهل- وابنه عكرمة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط وغيرهم كفار قريش.
لكن المسلمين لم يستسلموا أمام هذا الجمع، وأخذوا بالأسباب، وأعدوا العدة للقتال حتى نصرهم الله تعالى.
ولم يكن نصرهم فقط؛ لأن النبي ﷺ بينهم أو أن الملائكة كانت تقاتل معهم فقط، بل لأنهم نصروا الله وقاموا عند حدوده ومحارمه.
ثم توكلوا على الله وأخذوا بأسباب النصر، حتى أن الناظر للآية التالية لآية تشريع القتال يجدها تشترط وجوب نصرة الله أولا لتحقيق النصر.
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) آية40 سورة الحج.
وهذه النصرة لا تكون بالأقوال فقط إنما تكون بالاستعداد من استفراغ غاية الجهد في هذا الأمر.
من استعداد علمي وبدني واقتصادي وتكنولوجي وغيره من أدوات الاستعداد.
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) آية 60 سورة الأنفال.
وهذه العدة لا تكون إلا على قدر الاستطاعة لأنه سبحانه قال:
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) آية 286سورة البقرة.
بل إن الناظر لجميع غزوات النبي ﷺ يجد أن عدوه كان يتفوق عليه عددا وعدة، ولكن هذا التفوق لم يكن مدعاة للانهزام أو الفرار من المواجهة.
أو الضعف كذلك كان صحابته الكرم الذين أكملوا المسيرة من بعده على نهجه ﷺ فتجدهم يوجهون قادة أعظم إمبراطورتين في عصرهم بقلوب مؤمنة.
وعزيمة صادقة، وإيمان لا يخور، فلما وقف الصحابي الجليل عبادة بن الصامت أمام المقوقس عظيم مصر ليتفاوض معه عند محاصرة المسلمين لحصن بابليون، ازدراه المقوقس أول ما راه؛ لرثاثة ثيابه وتواضع حاله، فحدثه المقوقس حديث القوي للضعيف.
وذلك ليضعف عزيمته ويلين قوته، فخوفه من قوة الروم وبأسهم، وكثرة عددهم.
وشراستهم في القتال ثم عرض عليه مقدرا من المال له وللجيش للانصراف وترك مصر.
فلما تحدث المقداد وجد المقوقس محاورا صلبا لا تلين قناة، ولا تضعف له إرادة، ذا حجة حاضرة.
حتى إن المقوقس لما سمع حديثه هابه من ثقته بنفسه واعتزازه بدينه.
ولما أرسل الإمبراطور الروماني رسالة يلوم المقوقس على ضعفه في مواجهة العرب.
رغم أن معه ما يزيد على مئة ألف مقاتل في مواجهة اثنى عشر ألفا من المسلمين رد عليه الموقوس فقال:
إنهم رجال لو صارعوا الجبال لأزلوها من مكانها، لِمَ رأى من شدة بأسهم وقوتهم رغم ضعف إمكانيتهم.
فلم يكن لديهم من الإمكانيات ما لدى عدوهم فقد كان المسلمون يحاصرون حصن بابليون ذا الأسوار المنيعة والأبراج المرتفعة.
والمسلمون قوم عاشوا حياة البداوة في ظل بيوت من الخيام أو من الآجر.
فلا علم لهم بمحاصرة القلاع أو طريقة دخولها، لكن هذا الأمر لم يقف عائقا أمام سيطرتهم على الحصن.
ودخولهم إياه وهذا الموقف وغيره الكثير يوضح أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يعرفوا مستحيلا أو صعبا رغم فارق الإمكانيات بينهم وبين خصمهم.
وإن المرء ليتعجب من أولئك العرب الذين خرجوا من صحراء مقفرة لا علم لهم بالحضارة والتقدم.
ثم لما نزلوا في مواطن الحضارة تراهم يتعايشون مع الأمر ويبنون المدن، ويمصرون الأمصار.
ويعربون الدواوين، وينظمون الخراج، ويضبطون أمور الحكم والملك.
وكأنهم ورثوا هذا الأمر كابرا عن كابر، هذا التطور والتكيف مع الواقع الجديد لم يكن سهلا ميسورا على أولئك العرب بل إنهم طوروا من أنفسهم وأخذوا من الأمم التي تغلبوا عليها ما يناسبهم.
وكان عمادهم في ذلك قوله الرسول ﷺ:
( الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) سنن الترمذي.
فاستعملوا أهل هذه البلاد في معاونتهم على إدارة هذه الأمور.
ثم لما استقرت لهم الأمور انكبوا يبحثون عن تراث الأمم السابقة وينقلونه للعربية.
للاستفادة منه دون تكبر أو تعالى، وأخذوا يعرضون الجوائز لمن ترجم كتاب أو قدم جديدا.
وانتشرت المكتبات في بغداد والقاهرة وقرطبة وغيرها وأصبحت هناك أسواق للوراقين والنساخ..
وانتشرت العلوم وازدهرت الفنون وسادت الحضارة الإسلامية الأمم.
وشع نورها في أرجاء المعمورة وهي التي بدأت في على يد النبي ﷺ في مكة.
وهذا التطور والتقدم الهائل الذي يملكه خصومنا اليوم على شتى الأصعدة.
ينبغي ألا يكون ذلك عائقا أمامنا يمنعنا من سلوك هذا الطريق بل عليه أن يكون محفزا لنا لكي ننهض كما نهضوا في شتى المجلات العلمية.
فالعلم يعطي من تفانى واجتهد في تحصيله دون محاباة أو مجاملة.
وينبغي لنا إذا أردنا التقدم التطور أن نستغل إمكانيتنا، وأن نعتمد على ذاتنا.
مع الأخذ في الاعتبار الاستفادة من خبرات الآخرين والبناء عليها.
والبحث عن كل جديد فما تأخر من بدأ.
ضعف الإمكانيات ليس سببا للانهزام
التعليقات