عزف «آن» وصرخات «هيلانة» .. أغرب حوادث قصر البارون

 

كتبت : مريم محمد إسماعيل

تصوير : عاصم شكري

*قصر البارون.. الأسطورة الخالدة على مر العصور*

*مَنْ مِنا لم يسمع بقصر البارون، -ذلك المكان- الذي يكتنفه الغموض من كل جانب، أحيانا تسمع بأن هناك أصوات نقل أثاث تحدث في منتصف الليل، وتارة تسمع بأن هناك أضواء تظهر فجأة داخل القصر وسرعان ما تختفي، ناهيك عن أصوات الصرخات التي تنبعث من أروقة القصر، معلنة السخط على كل من يجروء على الاقتراب منه، إنه القصر الذي لا يسمح لأحد أن يبقى بداخله ويطرده مهما كلف الثمن، ولكن هل فكرت يومًا ما قصة هذا القصر؟ ومن الذي بناه؟ ومن قطنه سابقًا؟ تلك القصة التي تلاشت عنها الأنظار إلى أن صار قصر الاشباح المخيف، الذي لا يقرب منه أحد إلا وتعرض للهلاك.

*البارون لم يكن اسمًا.. إمبان كما لم تعرفه من قبل*

إدوارد لويس جوزيف إمبان أو كما يعرفه الجميع البارون إمبان، كان رجلًا فذًا بكل ما تعنيه الكلمة استطاع -ببراعته- أن يدخل التاريخ، ويتحدث عنه العالم حتى الآن وعن رائعته قصر البارون.

كان إمبان مهندسًا بلجيكيًا، بدأ حياته المهنية رسامًا في شركة تعدين وانخرط -بعد ذلك- في بناء السكك الحديدية؛ عندما لاحظ أن البنية التحتية للنقل في الريف كانت غير كافية؛ وبذلك حقق نجاحًا كبيرًا في بلجيكا لكنه لم يكتف بذلك، سافر إلى فرنسا وأقام شركة لخطوط السكك الحديدية هو وأخوه فرانس، وأنشأ مترو فرنسا وبفضله حصل في عام ١٩٠٧ على لقب بارون من ملك فرنسا تكريمًا له على إنجازاته، ولقب بارون يعني فارس أو نبيل.

قرر إمبان -كونه رجلًا ذكيًا- إنشاء شركة للكهرباء؛ لتوفير الكهرباء للترام، كما قام بإنشاء بنك إمبان وهو البنك الصناعي البلجيكي الموجود حاليا، لم يقتصر نشاط البارون على المجالين الاقتصادي والهندسي فقط بل امتد لمجالات السفر والترحال؛ فانطلق إلى المكسيك والبرازيل والكونغو والهند وفي الأخيرة اُصيب بمرض شديد وساعده أهل الهند على التماثل للشفاء؛ فلم ينس لهم هذا العرفان، وفي نهاية القرن التاسع عشر بعد افتتاح قناة السويس وصل البارون إلى مصر عام ١٩٠٤، ليقدم عرض إنشاء سكة حديد تربط بين المنصورة والمطرية ولكن تفز شركته بالعرض، وعلى الرغم من ذلك لم يحزن البارون الذي سرعان ما سقط أسيرًا في حب مصر، وقرر أن يعيش بقية حياته بها لدرجة أنه أوصى إذا وافته المنية في أي مكان لا بد أن يدفن في تراب مصر؛ ومن هنا جاءت له فكرة إنشاء القصر.

  1. *قصر البارون وهليوبوليس الفرعونية الآن*

بعد أن قرر البارون أن يستقر في مصر فكر في بناء قصره؛ فوقع اختياره على مكان في الصحراء شرق القاهرة بإعتباره يقرب من القاهرة وقناة السويس في الآن ذاته، ولتميزه بصفاء الجو ونقاء الهواء، ولكن البارون وجد أن المنطقة لا تنعم بالخدمات الكافية وبعيدة عن السكان؛ فعرض على الحكومة فكرة إنشاء حي -في هذه المنطقة- اسماه ” هليوبوليس” نسبة للمدينة الفرعونية هول؛ لأنه كان عاشقًا للحضارة المصرية القديمة، واشترى ٢٥ فدان سعر الفدان جنيه، وبدأ العمل فوضع البنية التحتية للمنطقة، وانشأ ٣ خطوط مترو أحدها يربط وسط البلد بمصر الجديدة، وأقام ملاعب الجولف ومضامير سباق الخيل والمنتجعات الصحية ومساكن راقية للإيجار؛ وبهذا أصبحت المنطقة جاهزة لإستقبال السكان.

اختار البارون أعلى هضبة في تلك الصحراء ليبني عليها رائعته قصر البارون، ولكنه أراد تصميم فريد من نوعه؛ فكان يزور المعارض بحثًا عن ضالته إلى أن عثر على تصميم المهندس الفرنسي ألكسندر مارسيل، -ذلك التصميم- الذي يجمع بين الحضارة الأوروبية والحضارة الهندية، فلم يتردد في شراء التصميم خاصة وأنه تذكر جميل أهل الهند فهو بارون أصيل.

استلهم ألكسندر بناء القصر من معبد أنكور واتفي في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية وقصر عصر النهضة بالنسبة للتماثيل الخارجية وسور القصر، وقام بزخرفة القصر الفنان جورج لويس كلود، وفي عام ١٩٠٦ بدأ بناء القصر على يد مجموعة من المهندسين الإيطاليين والبلجيكيين، ليكتمل البناء عام ١٩٠١١ مستغرقًا ٥ سنوات.

*جولة داخل قصر البارون*

تم تصميم القصر بزاوية ٣٦٠ بحيث لا تغيب عنه الشمس طوال فترة النهار، ويقع القصر على مساحة ١٢٥٠٠ متر مربع، وهو خليط من الحضارة الأوروبية والهندية والعربية، يضم تماثيل لأفيال هندية وزخارف أغريقية ونوافذ مصممة على الطراز العربي الإسلامي، بالإضافة إلى رسومات لليوناردو دافنشي ومايكل انجلو وعشرات التحف الذهبية.

يتكون القصر من طابقين وبدروم وبرج شيد على الجانب الأيسر، يتألف من ٤ طوابق يربطها سلم حلزوني، وعلى الرغم من مساحته الكبيرة إلا أن المساحة الداخلية للقصر صغيرة نسبيًا، فهو مكون من ٧ حجرات موزعة على طابقين يضم الطابق الأول صالة كبيرة و ثلاث غرف احدها للضيافة والثانية للمائدة والثالثة خاصة صالة ألعاب بلياردو، وعن طريق السلم الرخامي يصعد إلى الطابق الثاني الذي يتكون من صالة كبيرة و٤ غرف نوم واسعة أرضياتها من الباركيه، ولكل منها حمام خاص وشرفة محمولة على تماثيل الفيلة الهندية.

وفي البدروم توجد حجرات الخدم والمطابخ، بالإضافة للغرفة الوردية المتصلة بسرداب يصل القصر بكنيسة البازيليك التي دفن بها البارون ١٩٢٩.

يوجد في القصر مصعدين إحداهما للطعام والآخر لأسرة البارون، بالإضافة لبرج القصر الكموبدي الذي أحضره البارون من المعرض العالمي في فرنسا و أمر بتثبيته على تروس ورومان بيلي بحيث يدور دورة كاملة كل ساعة؛ فيتيح للجالس أن يرى كافة المعالم.

أما سطح القصر الأسطوري فهو أشبه بمنتزه يستخدم في بعض الحفلات التي يقيمها البارون، ومكانًا لشرب الشاي وقت الغروب.

يضم القصر تحف وتماثيل من الذهب والبلاتين والبرونز، أحضرها البارون من الهند، بالإضافة لساعة أثرية قديمة لم يسبق لها مثيل توضح الوقت بالدقائق والساعات والأيام والشهور ودرجات الحرارة وتقلبات القمر، أضف لذلك نظام التدفئة المركزية ويحيط بالقصر حديقة تحوي أزهار ونباتات أحضرها البارون من كافة أنحاء العالم.

*افتتاح القصر.. يا فرحه ما تمت*

افتتح البارون قصره عام ١٩١١ في حفل اسطوري ضخم حضره الأغنياء ورجال الاعمال، ومن ضمنهم صديقه حسين كامل الذي اعجب بالقصر من اول وهلة، وازداد تعلقه به وخاصة عندما صعد إلى البرج ووجد أنه يطل على مصر ولأول مرة من الأعلى ويرى أهرامات الجيزة، ولمح للبارون أن يهديه القصر ولكن البارون لم يقدر أن يفرط في اسطورته الفريدة، واعتذر بأدب ووعد صديقه أن يهديه قصر آخر يبنيه له خصيصًا ويكون شبيهًا برائعته قصر البارون، وبالفعل بنى إمبان قصرًا بجوار قصره وقدمه إلى حسين كامل الذي لم يعجبه الأمر ورفض حانقًا ورحل في سخط، وفي عام 1914 عندما تولى حسين كامل حكم البلاد خشى البارون على نفسه وسرعان ما حزم حقائبه ورحل عن مصر، ولكن لم يدم حكم حسين كامل طويلًا فسرعان ما وافته المنيه عام 1917، ليعودإ مبان إلى مصر من جديد وتبدأ حوادث القصر وأساطيره.

*آن ابنة البارون أصل رعب القصر* 

على الرغم من أن البارون كان يملك عرجًا بسيطًا بالإضافة إلى إصابته بنوبات الصرع، إلا أنه كان صارمًا جدًا وشديدًا لدرجة أن الخدم كانوا يخشون الاقتراب منه حتى لو اضطر الأمر أن يغشى عليه في الحديقة ويمر يوم كامل، لن تجد بجواره في الصباح التالي سوى كلبه، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه إلا بإذنه.

كان للبارون ابنة تدعى آن عمرها 17 عام، تعرفت آن على صديقة تعيش بقصر مجاور لها تدعى سيلفيا، وكانت سيلفيا من عبدة الشيطان أهدت آن صليب مقلوب احتفظت به في غرفتها ويقال أنه يستخدم في أعمال السحر.

وفي المساء عندما يكون البارون غائبًا؛ تحضر آن صديقتها سيلفيا وتبدأن بعزف موسيقى صاخبة في غرفه المرايا، وترقصان رقص هستيري وتذبحان الخفافيش، ومنذ ذلك الوقت وتوالت حوادث القصر إلى موت البارون.

 *البارونة التعيسة هيلانة*

ذات صباح وبينما كان البارون يجلس في البرج متأملًا معالم مصر، سمع صرخات أخته وهي تصرخ بشكل مفزع؛ فتوجه إلى غرفتها ولكنه وصل متاخرًا؛ فقد سقطت هيلانة من شرفة غرفتها وسط صرخاتها لترتطم بالأرض و تفارق الحياة فورًا، ومنذ ذلك الوقت ويقال أن الجميع كان يسمع صوت صرخات هيلانة في أروقة القصر، كأنها حانقة على أخيها لأنه لم يستطع أن ينقذها، بالإضافة إلى أن تروس البرج توقفت عن العمل يوم وفاه هيلانة ولم تعمل بعد ذلك حتى وفاة البارون.

ويشاع أن البارون كان يجلس في الغرفة الوردية -التي حرم على أي أحد من أفراد عائلته دخولها-، و يقوم بتحضير روح هيلانة ليعتذر لها، ولكنها تظل تصرخ طوال الجلسة وترفض اعتذاره.

 *حوادث القصر هل كان نعمة أم نقمة* 

منذ وفاة هيلانة وتوالت حوادث القصر، فبدأت بموت زوجة البارون في المصعد بالإضافة لسماع أصوات صرخات عالية في منتصف الليل، وتلى ذلك وفاة ٦ خادمات في حوادث متفرقة ضمنهم رئيسة الخدم التي وجدت رأسها مفصولة عن جسدها في المصعد، وعقب ذلك وفاة شقيق البارون في السرداب بطريقة غامضة، وانتحار ابنته آن والعثور عليها في البئر؛ مما أدى إلى دخول البارون إلى حالة اكتئاب وذهابه لبلجيكا للعلاج، ولكنه سرعان ما وافته المنيه أثر اصابته بالسرطان، وتم نقل جثمانه إلى مصر بناء على وصيته ليدفن في كنيسة البازيليك عام 1929.

 *مصير قصر البارون بعد موت إمبان* 

بعد وفاة البارون انتقل إلى القصر ابنيه جان و لويس اللذين كانا شغوفين بالسفر كوالدهما، فأهملوا القصر حتى عام 1954 حينما عرضاه للبيع في مزاد علني، واشتراه ثلاثة من أثرياء العرب

*١- رجل الاعمال السوري محمد بهجت.

*٢- والسفير السعودي محمد علي رضا واخوه على على رضا.

واشتروه بمبلغ 160,000 جنيه وأرادوا تحويله لنادي عالمي، لكن قوانين ثورة يوليو حالت دون ذلك، وتحول القصر بعدها إلى خراب.

*حوادث قصر البارون الغامضة* 

في عام 1982 أكد مجموعة من السكان أنهم رأوا دخان كثيف ينبعث من الغرفة الرئيسية للقصر ومن البرج الرئيسي، وبعد مرور دقائق ظهرت النيران في أرجاء المكان، ولكن سرعان ما اختفت دون تدخل أي أحد وانتهت الحادثة بغموض، ولم يعرف لها تفسير حتى الان.

في عام 1997 انتشرت عدد من الأساطير على لسان الجيران المحيطين بقصر البارون، أنهم كانوا يسمعون الموسيقى والغناء ينبعث من داخل القصر بعد منتصف الليل، بالإضافة إلى الكثير من الأضواء، وزاد إيمان الكثيرين بأن القصر مسكون، ولكن اتضح أن السر كان في أن مجموعة من الأشخاص كانوا يتسللون إلى القصر و يقيمون احتفالات في ظل موسيقى الروك، وينتمون إلى فئة يطلق عليها عبدة الشيطان، ولكن الشرطة تمكنت من القبض عليهم واشتهرت هذه القضية باسم قضية عبدة الشيطان، وقال هؤلاء الأشخاص أن تحالف ابنة البارون مع الشيطان كان يدعم طقوسهم بشدة.

لم تقتصر حكايات القصر على مصر فقط أو العالم العربي، بل وصل صيطه إلى العالمية؛ فكان الأجانب يطلبون تصوير بعض المشاهد في القصر، وأغلبها كانت أفلام رعب مثل الكونت دراكولا، هذا بالإضافة للعديد من الكتب والروايات التي تناولت قصه القصر في جميع انحاء العالم.

 *تحول القصر لملكية مصرية* 

كانت السيدة سوزان مبارك تمر كثيرًا أمام القصر وتتضايق من كون هذه الأسطورة مظلمة وكئيبة؛ لذلك طلبت من المهندس محمد سلمان أن يجد حلًا لهذه المعضلة، وبالفعل تواصل محمد سلمان مع ملاك القصر واتفق معهم أن يشتري القصر ويبادلهم بقطعة أرض بالقاهرة الجديدة، يقيمون عليها مشاريعهم الاستثمارية وهكذا أصبح القصر ملكًا للدولة.

 *أعمال الترميم.. مرة أخرى تدب الحياة من جديد في قصر البارون* 

في عام 2017 بدأت شركة المقاولون العرب المكلفة من الهيئة الهندسية بالتعاون مع وزارة الآثار وأعمال الترميم، بعد أن تسلمت كافه المستندات والدراسات الخاصة بالمشروع، وقدر المشروع بتكلفة ١١١٣.٧٣٨ جنيه مصري بتمويل حكومي، وساهمت بلجيكا بمنحة بلغت 16 مليون جنيه مصري.

وبعد انتهاء أعمال الترميم فتح القصر أبوابه في 29 يونيو 2020 بحضور رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، ورئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، وزير السياحة، والآثار خالد عناني.

في نهاية الأمر كل ما يروى عن القصر حتى الآن هو مجرد أقاويل، بعضها قد يكون حقيقة والبعض الآخر لن يخرج عن كونه أسطورة، ربما لأن حياة البارون التعيسة كانت أحد أهم الأسباب في قصص الأشباح التي تناقلها الناس لمئة عام، ولكن برأيك أنت بعد أن قرأت القصة كاملة، هل تعتقد أن قصر البارون بيت للأشباح؟

التعليقات