
تكثر الأمثال الشعبية في مجتمعنا العربي، نستخدمها معبرين عن حالة معينة تتعلق بهذا المثل، بدل اللجوء لشرح مطول في تلك المسألة، وتنتشر الأمثال بسرعة كالنار في الهشيم؛ فتجد الكثريين يقولونها غير مدركين كيف ظهرت؟ وما هي المُلابسات التي أخرجت هذا المثل للنور؟ فمقولة “عدنا والعود أحمد” ستجدها تُقال في أكثر من مناسبة، ولكن لنتوقف هنا قليلًا ونبدأ بالتفكير وإعمال عقلنا في أصل هذه المقولة، ومن الذي قالها لأول مرة، لتصبح جزء من تراثنا الشعبي المتوارث.
معنى المثل
يضرب مثل “عدنا والعود أحمد” في الكثير من المحافل والمجالس، عند الرجوع عن الإساءة للإحسان، وكذلك الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصراف بالذات أو القول والعزيمة.
ومعنى “العود” الرجوع للشيء بعد التوقف عنه، وقال ابن منظور في هذا السياق: العود ثاني البدء، أما “أحمد” فهو اسم تفضيل من الحمد أي أكثر حمدًا، فالمقولة هنا تعني أن الشخص إذا كان يفعل شيئًا طيبًا حميدًا، وجلب الحمد لنفسه؛ فذلك من طيب خصاله، وإن تركه ثم عاد إليه؛ فرجوعه أطيب وأكسب للحمد، ولا يكون أحمد إلا بعد أن يُعلم الأمر قبلًا؛ فيكون الرجوع على الغالب أفضل.
صاحب المثل وأصل قصته
يُقال أن أول من قال هذه المقولة هو خداش بن حابس التميمي، فقد أحب فتاة جميلة من بني ذَهل، ثم من بني سَدُوس يُقال لها: الرَّباب، وهام بها زمانًا، ثم أقبل لخطبتها ولكن أبواها رفضاه، وكانا يتمنعان في خطبتها لجمالها، ويطمحان لتزويجها ممن يملك المال والجاه، فأعرض عنها خداش احتراماً لقرار والديها، إلا أنه كان يتجول في ذات مرة وأقبل أمام منزلها، فأنشد قائلاً :
أَلا لَيْتَ شِعْرِي يا رَبَابُ مَتَى أرى … لَنَا منك نُجْحاً أوْشفاء فأشْتَفِي
فقد طالما عَنَّيْتنِي وَ رَدَدْتِنِي … وأنت صَفِيَّي دون مَنْ كُنْتُ أَصْطَفِي
لَحَى الله مَنْ تسمو إلى المال نَفْسُهُ … إذا كان ذا فَضْلٍ به لَيْسَ يَكْتَفِي
فَيُنْكِح ذَا مالٍ دَميماً مُلَوَّماً … وَيَتْرُك حُرَّاً مثله لَيْسَ يَصْطَفِي
فعرفت الرَّباب منطقة خداش وحفظت شعره، ثم أرسلت رسولًا إلى الركب الذي فيه خداش أن انزلوا الليلة ضيوفُا لدى والدي، وأرسلت إلى خداش أن قد عرفتُ حاجتك فاطلب يدي من أبي، ثم ذهبت إلى أمها فقالت : يا أُمَّه، هل أُنكح إلا من أهوى؟ و ألتحف إلا من أرضى؟
قالت: لا، فما ذاك؟
قالت: فأنكحيني خِداشاً.
قالت: وما يدعوك إلى ذلك مع قلّة ماله؟
قالت: إذا جمع المال السيء الفعال فقبحا للمال.
فأخبرت الأم أباها بذلك، فقال: ألم نكن صرفناه عنا، فما بدا له؟
فلما أصبحوا غدا عليهم خداش فسلم وقال: العَوْدُ أحمَدُ، والمَرءُ يَرشُدُ، والوِردُ يُحمَدُ، فصارت مثلًا.
ويُقال أن أول من قالها هو مالك بن نُويرة حين قال:
جَزَيْنَا بني شَيْبَان أمسَ بقَرْضِهِم … وَعُدْنَا بمثل البَدْءِ والعَوْدُ أَحْمَدُ
فرددها الناس بعده وصارت مثلًا، حتى أن خداش اقتبسها منه بعد ذلك.
حكاية عبد الملك وصرة الذهب
يحكى أبو الفرج الأصفهاني أن الرواة نقلوا له قصة تتعلق بمقولة “العود أحمد”، وذلك أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان -المؤسس الثاني لدولة الأمويين بعد معاوية بن أبي سفيان- نادى حاجبه يومًا وأمره أن يأتيه ببدرةٍ (صُرة) من ذهب؛ فأحضرها ووضعها بين يديه، وقال عبد الملك لجلسائه: “أيكم يُنشدني صدر هذا البيت وله هذه البدرة؟”، فلم يجد عنهم جوابًا لما سأل عنه.
وكان الخلفاء -قبل عبد الملك وبعده- يسألون في مجالسهم عن الأدب والشعر وغيرهما، ويتخذون من تلك الأحاديث تسلية وسلوى، فلما لم يجد عنهم جوابًا؛ أمر حاجبه أن يتفقد الناس خارج المجلس، ولينظر أيهم يحفظ البيت؛ فقال أحدهم البيت عندي ورفض أن يقوله للحاجب، واشترط أن يقوله للخليفة مشافهة ودون وسيط.
وافق عبد الملك وقد أدرك أن هذا لا بد أن يكون صاحب حاجة، وما جوابه إلا بوابة عبور ليعرض أمره على الخليفة، وقال لحاجبه: “هذا رجل قد طال مقامه بالباب وله حاجة، والله لئن دخل علي ولم ينشدني لأعاقبنه”، ودخل الرجل وسلم، قال عبد الملك: أنشدنا صدر بيتنا فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! حاجتي؛ فقال: وما هي؟ قال: لي بنو عمٍ باعوا ضيعتهم بالسواد؛ فأدخلوا ضيعتي في ضيعتهم! قال عبد الملك: فإن أمير المؤمنين قد رد عليك ضيعتك؛ فأنشدنا صدر بيتنا.
وبعدما اطمأن الرجل، قال: نعم يا أمير المؤمنين! قالت تميم إنه بيتها، قاله أوس بن حجر (جزينا بني شيبان صاعًا بصاعهم/ وعدنا بمثل البدءِ والعود أحمد)، ابتسم عبد الملك ابتسامة المُغضب ورمقه بعينه قائلًا: أخطأت! لكن الرجل لم يفوت الفرصة وقال: يا أمير المؤمنين! أبلعني ريقي، قال عبد الملك: قد فعلت؛ فاستطرد الرجل: قالت اليمن إنه بيتها، قاله امرؤ القيس (فإن كنتِ قد ساءتكِ مني خليقةٌ/ فعودي كما نهواكِ فالعود أحمد).
وللمرة الثانية، يقول له عبد الملك: أخطأت! فاندفع الرجل مواصلًا حديثه: يا أمير المؤمنين! قالت ربيعة إنه بيتها، قال المرقَّش (وأحسنَ فيما كان بيني وبينه/ وإن عادَ بالإحسان فالعود أحمد)؛ فقال عبد الملك: أصبت! وإنك لظريف؛ فمن أنت؟! قال: أنا زيد بن عمرو، فسأله: ممن؟ قال: من حي جانب عجرفية قيس وعنعنة تميم وكشكشة ربيعة وصأصأة اليمن وتأنيث منانة، أنا من عذرة؛ فأمر له بالبدرة.
المثل في أبيات الشعر العربي
ذُكر المثل كثيرًا في شعر العرب فقال كُثَـيِّر عَزّة:
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدًا
فإن عدتمُ أثنيتُ والعَود أحمد
وهذا على غرار قول المرقِّش:
وأحسن سعدٌ في الذي كان بيننا
فإن عاد بالإحسان فالعود أحمد
وقال الأخطل:
فقلت لساقينا عليك فعُدْ بنا
إلى مثلـها بالأمسِ فالعود أحمد
بينما قال ابن الرومي:
مَا أسْتَقِلُّ قَلِيلاً أَنْتَ بَاذِلُهُ
ذِكْرَاكَ إِيَّايَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ
وَالْعَوْدُ أَحْمَدُ قَوْلٌ قَدْ جَرَى مَثَلاً
وَعُرْفُ مِثْلِكَ بِالْعَوْدَاتِ مَوْصُوفُ
فَأجْرِهِ لِيَ إِنَّ النَّفْسَ قَدْ أَلِفَتْ
آثَارَ كَفَّيْكَ وَالْمَعْرُوفُ مَأْلُوفُ
كذلك ورد في اللغة
رجع عَوده على بَدئه؛ “أي أنه لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوعه، فهو قد نقض مجيئه برجوعه، وقد يُراد أنه يقطع مجيئه ثم يرجع فيقول: رجعت عودي على بدئي -أي رجعت كما جئت-، فالمجيء موصول به الرجوع، فهو بدء والرجوع عود”.
وهنا يكون سؤالي، هل يكون عودي إليكم أحمد؟
التعليقات