
مؤمنين صالحين
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
يقول الله سبحانه في كتابه العزيز:
“وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ” [النور: 55]
هذه آية تحمل في طيَّاتها قانون النصر، وتحتوي على عناصرِ معادلة التمكين التي ذهب المسلمون يبحثون عنها في كل مكان.
وهي في متناول أيديهم، وبين دفتي كتابهم المنزَّل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
فالله سبحانه في هذه الآيات يعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين حققوا الإيمان في قلوبهم ولم يتوقفوا عند ذلك.
بل أتبعوا الإيمان بالعمل الصالح، يعدهم بوعود عظيمة ما كانت لتخطر عليهم، بل كانوا يقنعون بما هو أدنى منها بكثير.
يعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض وأن يمكّن لهم دينهم، وأن يؤمِّنهم بعد أن كانوا خائفين.
وهذه المعادلة لا يتحقق جانب منها إذا لم يتحقق الجانب الآخر، فإذا أدى الناس ما عليهم جاءت النتيجة من الله الذي لا يخلف الميعاد.
ولقد تحقق هذا الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين
لأن الأمة كانت تسير على صراط الله سبحانه وتطلب مرضاته.
وتحقق بعد ذلك في كل عصر كان فيه المسلمون محققين لتقوى الله في قلوبهم ساعين في عمل الخيرات.
فالله يُمكِّن لأوليائه إذا كانوا مؤمنين صالحين، ومن هذا نعلم أنه إذا مكَّن العبد لدين الله في قلبه وأصبح هذا الدين يتربع على عرش القلب وتأتمر الأعضاء بأمره.
فإن الله يمكّن لهذا العبد في الأرض ويجعله غالبًا لا مغلوبًا.
أما إذا طرد الإسلام ومكِّن للشيطان والشهوات في القلوب فإن الله سبحانه بعدله يكتب الذل والصغار على أصحاب هذه القلوب: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]
وهذا ما كان من هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم فهم لم ينتصروا بالعدد.
وإن كان العدد عاملاً مساعدًا في النصر، بل كانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من عدوهم.
بدءًا من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفًا من الفرس بقيادة رستم وهزموهم بإذن الله.
وإذا أجرينا عملية نسبة وتناسب، لوجدنا أن كل جندي مسلم في معركة القادسية يقابل أكثر من ثمانية من جند العدو.
كما أن المسلمين لم ينتصروا بقوة وتقدم عدتهم رغم أنها عامل مساعد أيضًا في النصر.
لأنهم لم يكونوا متقدمين تقنيًا، بل كانوا يقاتلون بأدوات تقليدية كالسيف والرمح، بينما أعداؤهم يستعملون أدوات أقوى وأنجع.
بل وصلوا إلى استعمال الحيوانات الضخمة التي كانت مخيفة للناس وللخيل، فقد استعمل الفرس في معركة القادسية أكثر من ثلاثة وثلاثين فيلاً في القتال، ومع هذا لم يتراجع المسلمون ولم ينهزموا، لم ينهزموا رغم أنهم الأقل عددًا والأقل عدة؛ لأنهم تسلحوا بالإيمان.
أهم أسباب النصر
إن من أهم أسباب النصر طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فأين نحن من هذين الأمرين العظيمين؟
أين نحن من طاعة الله سبحانه التي هي خير عدة وخير عتاد، بل هي العتاد والعدة .
يقول سبحانه : كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ [البقرة:249]
ليس المقياس مقياس عدة وعدد، إنما المقياس مقياس قرب من الله وبعد عنه، لهذا لما طارد فرعون بجنوده وملئه موسى عليه السلام وقومه.
وقال قوم موسى في خوف ووجل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]
قال موسى العبد الواثق بربه: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]
إذًا فطاعة الله حصن عظيم يلجأ إليه الصالحون في الشدائد فينصرهم الله وينجيهم من كل كيد.
النصر والتمكين
لابد لنتشرف بالنصر والعز والتمكين من أن نهيئ أنفسنا وقلوبنا لكي ترقى إلى المستوى الذي يرضاه الله سبحانه.
فالتمكين إنما يكون عندما يستكمل الإنسان لوازمه ومقتضياته، ويكون أهلاً لأن ينال هذا الشرف.
ولا ينبغي لعبد يريد التمكين من الله أن يثق في حوله وقوته البشرية أو يثق في عدد أو عدة، بل يثق في الله وحده ويبتعد عن الإعجاب بنفسه.
ولقد علّم الله المسلمين درسًا عمليًا في غزوة حنين على أن العدد والعدة ليست كل شيء.
وعلى أن الله قادر على أن يهزمهم إذا هم اعتمدوا على قوتهم واغتروا بها، فقد كان المسلمون يوم حنين معجبين بأنفسهم فقالوا:
لن نغلب اليوم عن قلة، وكانوا يومئذ اثني عشر ألف رجل، ففاجأهم المشركون الذين كانوا يختبئون في جنبتي الوادي،
فانهزم جيش المسلمين بالكامل، ولم يبق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء
وحوله عشرة من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم
ثبت رسول الله في هذا الموقف الرهيب وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب وثبت معه هؤلاء الرهط.
ثم عاد المسلمون وقاتلوا عدوهم وانتصروا عليه، وهذا درس من الله لعباده الصالحين أن لا يغتروا بقوتهم.
وأن لا يعتمدوا ويثقوا إلا فيه بقول سبحانه:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَاء الْكَـافِرِينَ [التوبة: 25، 26]
سنة كونية إلهية لا تتغير
إنها سنة كونية إلهية لا تتغير ولا تتبدل، التمكين يحتاج إلى تمكين، والنصر يحتاج إلى نصر.
ثم لكي يكون تمكين في الأرض لابد أن يتمكن الإيمان من القلب، ولكي يكون نصر على الأرض لابد أن ينتصر دين الله في القلب، والصالحون هم الأعلون .
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أحمد عن أبي والذي يتكلم فيه عن الأمة إذا سارت على نهج الله :
بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب .
ويقول سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ [الأنبياء: 105]
اللهم يارب العالمين انصر إخواننا المظلومين المستضعفين ممن ظلمهم من أعدائك من أعداء الدين يارب العالمين.
فاللهم إن أهل غزة وإخواننا المستضعفين في فلسطين..
فاللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم مشردون فآوهم، اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم.
اللهم إنهم فقراء فأغنهم، اللهم إنهم خائفون فآمن روعاتهم..اللهم إنهم مظلمون فانتصر لهم يارب العالمين.
اللهم هيئ المسجد الأقصى لعبادتك يارب العلمين لتعبد فيه ويذكر فيه اسمك يارب العالمين إلى يوم الدين، اللهم وطهره من رجز المعتدين يارب العالمين.
مؤمنين صالحين
التعليقات