الصحة النفسية.. أحيانًا تمر باخفاقات شتى، تصاب بالخمول والكسل، وتبدأ في شحذ وعيك للمسير في درب اليأس، الذي ينخر قوتك ويقتل همتك، ويجعلك تصادف محطات الانهزامية وفقدان الثقة والاكتئاب.
وفي النهاية تصل إلى أبواب موصدة تحتاج إلى مفتاح مصمم منك خصيصًا.
وكثيرًا ما تتسأل هل ذلك الشعور وليد هذا العصر، الإجابة لا، فالألم النفسي له جذور ضاربة في القدم.
ارتبطت بالإنسان البدائي القديم الذي جرب العناء والقلق منذ آلالاف العصور في صراعه من أجل البقاء على قيد الحياة، قبل أن يدون التاريخ صفحاته.
عالم نفسي فرعوني
تجلى اهتمام المصريين القدماء بالصحة النفسية من خلال النقوش على جدران المقابر والمعابد.
وفي حوار أجرته «بوابة العالم الأوسط» وضح خالد يوسف الحناوي، متخصص وباحث في علم المصريات، أن الفراعنة أول من عرفوا العلاج الذهني والنفسي، من خلال النوم في المعابد، بعد أن ثبت وجود صلة بين الروح والجسد.
وفي ذلك السياق أكدت أميمة عبد الله مصطفى، دكتور الصحة النفسية والإرشاد النفسي جامعة عين شمس، لـ«بوابة العالم الأوسط» أن معرفة الإنسان الفرعوني بالاضطرابات النفسية، واعتقاده أنها تحدث جراء قوى خارقة للطبيعة، أو أرواح شريرة أو سحر، جعله يستند في علاجها على الرقي والتمائم -وذلك طبقًا للمعتقدات الروحية آنذاك-.
الصحة النفسية.. الوقاية خير من العلاج
أشارت أميمة عبد الله مصطفى إلى إن الصحة النفسية تعني الحياة التي تتضمن الرفاهية والاستقلال والجدارة والكفاءة الذاتية بين الأجيال، والتعامل مع ضغوط الحياة ومساعدة المجتمع.
فهي حالة من التوازن بين البيئة والجسد والذات، لاكتمال السلامة بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا.
لذلك حرص الفراعنة على اتباع بعض العادات السليمة في حياتهم اليومية؛ للحفاظ على صحة نفسية نقية لا تشوبها شائبة.
وقد بيّن خالد يوسف الحناوي ذلك في قوله: “اهتم الفراعنة برياضة المشي والجري، والاستماع إلى الموسيقى والغناء؛ من أجل تحسين حالتهم النفسية وإدخال البهجة والسرور للنفس”.
“كما أعتنوا بالنظافة الشخصية، حيث اعتقدوا أن الصحة البدنية مرتبطة بالصحة الروحية فكانوا حريصين على الاستحمام يوميًا أكثر من مرتين”.
واستطرد كلامه: “لقد ركزوا على النظام الغذائي الصحي، فكانوا يكثرون من تناول البصل والثوم والأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة وفيتامين أ، وهذا النظام كان يقلل فرص إصابتهم بالعديد من الأمراض.”
ما السبب؟!.. نظرة الفراعنة للاضطراب النفسي
اعتقد الفراعنة أن الاصابة بالأمراض والأوبئة إشارة على غضب الآلهة، التي تقوم بتسليط الأرواح الشريرة لنشر المرض في جسم الإنسان.
بحسب دراسة نشرت بعنوان “كيف مارس المصريون القدماء الطب”، فقد اعتقد المصريون القدماء أن رضا الآلهة له دور كبير في الشفاء.
وهذا ما قاموا به مع بعض الآلهة مثل: الآله سخمت عندما قدموا له القرابين.
الصحة النفسية.. مرضي مكتوب على ورق بردي
بيّن خالد يوسف الحناوي أن الفراعنة عرفوا الأمراض العقلية والنفسية ودرسوها وقاموا بتصنيفها في برديات.
أشهرها بردية “أدوين سميث” وبردية “إيبرس”، التي تصف الممارسات الطبية المصرية القديمة، وتحتوي على أكثر من 700 وصفة علاجية للعديد من الأمراض.
وتوضح بردية إيبرس بعض الأمراض النفسية التي توصل إليها الفراعنة وحاولوا علاجها.
مثل: الهستيريا والاكتئاب، لكن لم يطلق عليها الطبيب المصري القديم أسمائها الحالية، إلا أن طريقة وصفها تتفق مع وقتنا الحاضر.
• الهستيريا
تُعرف على أنها مرض نفسي يصاحبه أعراض لا شعورية، يكون دافعها الهروب من موقف خطر أو جذب اهتمام.
وعادةً يظهر هذا المرض في الشخصية التي تتميز بعدم النضج الانفعالي.
واعتقد المصريون القدماء بأن أعراض الهستيريا ناجمة عن سوء وضع الرحم وتحركه من مكانه.
كما ذُكر في بردية ايبرس في الوصفة 356 التي تتحدث عن المريضة المصابة بعمى هستيري.
واستخدموا بعض التعاويذ السحرية لعلاجها.
• الاكتئاب
اُعتبر الاكتئاب حالة من الحزن والرغبة في العزلة، والانصراف عن الاستمتاع بمباهج الحياة، وقلة الحماس للعمل وفقدان الشهية للطعام، ويصاحب كل ذلك اضطراب في النوم وأرق.
وعلى الرغم من أن المصريين القدماء لم يطلقوا على الاكتئاب اسمًا طبيًا مناسبًا، إلا أنهم ذكروه في بردية ايبرس في الوصفة 855، التي تصف أعراض الاكتئاب.
وتم ذكره أيضًا في وصفة 694 التي تشمل بعض العقاقير لتحسين الحالة النفسية.
وذُكر الاكتئاب في الكثير من الروايات الأدبية بالأدب المصري القديم.
مثل: بردية “شجار اليائس من الحياة مع روحه”، حيث تجسد اليأس في أظلم أشكاله.
وترجع هذه البردية إلى عهد الملك امنمحات الثالث في الأسرة 12.
وتحكي حوار بين رجل وروحه تروى فيه الروح لصاحبها قصتين، تهون عليه ما حل به من يأس واكتئاب.
وتظهر البردية أن أبطال القصتين قد مروا بأصعب المواقف مما جعلهم يدخلون في حالة من الاكتئاب والعزلة.
وهناك أيضًا قصة الزوجة التي تصف حال زوجها قائلة:
“لقد رفع ملابسه ورقد، لا يدري أين هو”، أما زوجته فمدت يدها وقالت: “يا أخي، لا أشعر بالحمى في صدرك أو أطرافك، ولكن الحزن في قلبك”.
الصحة النفسية.. طبيب أم كاهن أيهما أقرب!
أوضح خالد يوسف الحناوي في كلامه أن مكانة الكاهن لم تطغى على مكانة الطبيب “السونو” في مصر القديمة.
والسبب في ذلك يعود أن الكهنة أنفسهم كانوا هم الأطباء، إلا أنه مع الوقت تطور الطب وصار تخصصًا قائمًا بذاته.
وذلك ما وافق كلام يوليوس جيار، في كتابه “الطب في عهد الفراعنة”، أنه كان يشترط ألا يشتغل بالطب إلا من أمضى سنوات في ممارسة الكهنوت، وحصل على شهادة تؤهله لممارسة المهنة علميًا أو عمليًا.
ولهذا كان الأطباء على علم تام بقواعد الكهنوت، ليباشروا وظائفهم بطهارة القلب ونزاهة النفس وحسن الإيمان.
وغالبًا كانوا يفضلون جعل عيادتهم بالقرب من المعابد؛ لأن الشعب كان كثير التعلق بأماكن التعبد.
وهكذا كما قال هيردوت المؤرخ اليوناني، أن المصريين القدماء لم يجدوا أي تعارض بين إيمانهم بالقدر والبعث والحساب، وبين أخذهم بأسباب العلم والطب ومحاولة علاج الأمراض بطرق عملية.
التعليقات