مريم محمد إسماعيل
الزمان : العهد الفاطمي
المكان : مصر في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي
هل تتخيل أن تأكل القطط تلك المخلوقات اللطيفة التي تستأنسها في بيتك؟ أو أن يضيق بك الحال لتفتك بكلبك الوفي الذي لا يغادر عتبة بابك حاميًا إياك من براثن الشر؟ والأبشع هل تخال نفسك قادرًا على تناول أفراد عائلتك لمجرد أن البيت لا يوجد به كسرة خبز؟ قبل جوابك على هذا، عليك أن تعرف جيدًا أن ما مرت به مصر في تلك الفترة لم يكن بالأمر الهين، والذي يعرف بالشدة المستنصرية، ربما ستظن أني أتحدث عن إحدى أفلام الخيال العلمي ولكن هذا أمر حقيقي وواقع ملموس، عاشته مصر في أقصى فترات الحكم والتي عُرِفت بالسنوات العجاف.
بأنامل طفل صغير مسك صولجان الحكم
كان اليوم يومًا حافلًا، تجمع أفراد الشعب في الساحات يهتفون ويهللون بأصوات مرتفعة بلغت عنان السماء، كان يسمعهم وينظر للأمر بغرابة هل العيد اليوم يا ترى؟ لقد توفى الخليفة -وبالطبع- لا بد أن يتولى مقاليد الحكم هذا الطفل الصغير البالغ من العمر 7 سنوات، سمع أحد الوزراء ينعته باسم غريب وحينما انتهى من خطبته شرع الجميع بالتصفيق؛ ليبدأ حكم جديد وعهد خليفه آخر، أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين اللّه أو كما تم تسميته المستنصر بالله خامس الخلفاء الفاطميين، الذي تقلد الحكم قبل أن يدرك وحتى 60 عامًا.
من جارية إلى وصية البلاد
إنه ما زال صغيرًا لم يدرك -حتى الآن- ما تعنيه كلمة خليفة؛ لذا سأشق الطريق لولدي وأضع له الآثاث قبل توليه زمام الأمور” كانت والدة المستنصر إحدي الجواري السودانيين التي وقع والده في حبها، وكان كل ما تأمله هو أن تنجب منه وليًا للحكم، لم تكن تعلم ما تخبأه لها الأيام من أسرار؛ ولذلك فلم تفرق عن طفلها الصغير شيء فأمور البلاد كانت بالنسبة لها المجهول، تدخلت في شئون البلاد بشكل كبير؛ فكانت تعين الوزراء و تقيلهم حسب أهوائها الخاصة، لم تلعب الكفاءة دورًا في تلك المرحلة حتى بلغ بها الأمر إلى إقالة أحد الوزراء وتعيين غيره في نفس اليوم، واُشيع أنها تستبدل الوزراء كما تستبدل فساتينها؛ فكانت أول صدع في حكم المستنصر باللّه أو -كما يقولون- القشة التي قسمت ظهر البعير.
فجر عهد جديد .. مصر ترى النور
حينما بلغ المستنصر أشده تولى تقاليد الحكم من جديد، واُعتبرت تلك الفترة من أزهى العصور؛ حيث مد سلطانه إلى العديد من البلدان، وكبرت خلافته في وقت قصير لتشمل مصر، وبلاد الشام، والحجاز، وفلسطين، وصقلية، وشمال افريقيا، وبغداد، وخطب له في بغداد لمدة عام وذلك في عام 450 هجري.
كانت خزائن الدولة ممتلئة بالأموال، وكان الدواء يوزع بالمجان على الفقراء الذين لا يستطيعون شراؤه، ويعود الفضل في ذلك إلى أبو القاسم الجرجاني والذي سرعان ما تركه ومات عام 1045 ميلادي.
لم يولد سلام من رحم الحروب
كان الجيش -في ذلك الوقت- تحت قيادة اليزاري الذي كان يمسك بزمامه جيدًا على الرغم من تعدد اصنافه، من أتراك، وبربر، وسودانيين، لكن سلطة والدة المستنصر لم تترك اليزاري وشأنه، وسرعان ما طالته مطيحةً إياه بعيدًا؛ ليدق المسمار الثاني في نعش المستنصر باللّه وعلى الأحرى في نعش مصر، ومع غياب الراعي يفتك الذئب بالخراف، تحالف في ذلك الوقت الأتراك مع البربر على طرد السودانيين إلى صعيد مصر؛ ليتولوا هم زمام القاهرة ولكن السودانيين لم يرضوا بهذا الأمر، وبدأوا يفسدون في صعيد مصر؛ فهدموا الجسور وخربوا نظام الري وعم الفساد، أضف إلى ذلك أن مياه النيل فى تلك الفترة بدأت بالجفاف؛ فبارت الأراضي الزراعية ونفقت الحيوانات، وعلى الجانب الآخر دب الشجار بين البربر والأتراك؛ فطردهم الأتراك إلى الوجه البحري واحكموا السيطرة على القاهرة؛ فدمروا المكتبات واعتدوا على القوافل التجارية، فلم يعد يأت التجار إلى مصر خوفًا على بضاعتهم، ولم يكتف الأتراك بذلك فنهبوا الأسواق وأفسدوا في البلاد.
الشدة المستنصرية .. فيلم الرعب في مصر
بإمكانك الآن أن ترى الصورة الكاملة لحال مصر -في ذلك الوقت-، لقد عم الفقر في البلاد واحتكر التجار السلع؛ فكان سعر رغيف الخبز حينها يباع بسعر 15 دينار، علمًا بأن الدينار -في ذلك الوقت- كان يساوي 4,25 جرام ذهب عيار 24، لم يجد الناس ما يأكلوه؛ فكانوا يصطادون الكلاب والقطط من الشوارع حتى شحت لدرجة أنها اصبحت تباع في الاسواق كشيء نادر ونفيس، فكان القط يباع بسعر 3 دينار والكلب بسعر 5 دينار، عانت مصر بشدة -في تلك الفترة-، واختفى الأمان تمامًا وهاجر كثير من أفراد شعبها إلى بلدان مجاورة.
ولأول مرة في عهد البشرية أكل لحوم البشر
توجه أحد الوزراء في إحدى الليالي إلى قصر الحاكم وترك غلامه مع بغلته خارج القصر، وعندما عاد أخبره غلامه بأن 3 رجال سرقوا البغلة وذبحوها وتناولها، وعلى الفور بحث الوزير عنهم حتى وصل إليهم، وأمر بصلبهم في ساحة المدينة، وفي صباح اليوم التالي اختفت الجثث الثلاث ليبدأ عهد أكل لحوم البشر في مصر.
إذا أخذت طريقك يومًا في شوارع مصر ليلًا -في تلك الحقبة-، ستجد مجموعة من الصيادين يمسكون بسلاسل تنتهي بخطاف حديدي، يرموه ليصطادوا الأطفال كوجبة للعشاء.
كثُرت تجارة الرقيق -في تلك الفترة- ولكن من يتم شراؤه سيصبح الوجبة القادمة، كانت الجواري تقتل أسيادها ليلًا لتناولهم، والقبور تنبش دائمًا بحثًا عن الجثث الطازجة كوليمة لسد الجوع، واستمر هذا الحال لسبع سنوات من 457 إلى 463 هجري عرفت بالسنوات العجاف .
ذكر المقريزي في كتابه أن سيدة ثرية باعت عقده الذهبي بألف دينار؛ لتشتري شوال دقيق واستأجرت حرس لحمايتها، ولكن لا مناص تعرضت للهجوم وسُرق شوال الدقيق، ولم تنل منه سوى حفنة صنعت بها رغيفي خبز السواح؛ فتوجهت مسرعةً إلى قصر المستنصر وصاحت بأعلى صوتها: “أيها الناس فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي مولاي المستنصر الذي اسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت علي هذه القرصة بألف دينار”.
حتى المستنصر لم يسلم من تلك الحقبة، فقد كان يبيع رخام قبور عائلته ليشتري الخبز، ونفذت خزائنه ودائما تراه يجلس أمام القصر قائلًا: “أنا جائع” منتظرًا ابنة أحد الفقهاء التي كانت تعطيه رغيفي خبز يوميًا تصدقًا عليه.
وأخيرًا مصر في سماء لا تلبدها الأشجان
بعد أن تفاقمت الأوضاع في البلاد، وجد المستنصر أنه لا بد أن يستعين بقوى عسكرية تساعده على تمالك زمام الأمور من جديد؛ فتوجه إلى بدر الدين الجمالي واليه في عكا وأعرب له عن رغبته في أن تتحسن أوضاع البلاد، فاشترط عليه الجمالي أن يأخذ كل الصلاحيات فوافق المستنصر، فلم يكن أمامه حل آخر.
توجه الجمالي بجيوشه إلى مصر وقضى على الحكام الفاسدين من الأتراك، وعزل كل الأمراء الذين يستبدون بالبلاد وتولى أمر السودانيين، وبدأ بإصلاح البلاد تدريجيًا؛ فبنى الجسور وشق الترع واستصلح الأراضي، وأعاد الأمان للبلاد فعاد إليها شعبها المهاجر.
من دهاء الجمالي أنه أحضر مجرمين حكم عليه بالإعدام -سابقا-، وجعلهم يرتدون ملابس التجار وأعدمهم على الملأ معلنًا أنهم كانوا يحتكرون السلع، وأن ذلك المصير سيكون بالمرصاد لكل تاجر يبيع بسعر عالٍ؛ فبدأت الغلة تظهر من جديد.
قام بإلغاء الضرائب على الفلاحين لمدة ٣ سنوات، واستصلح نظام الري وقام ببناء سور القاهرة وباب النصر وباب زويلة وباب الفتوح وحي الجمالية.
وفي النهاية عادت مصر لما كانت عليه من جديد، أعلم أنك تعيش في هذه البلاد، ولكنك لم تكن تعلم بأمر كهذا، فأحمد الله أن البلاد مرت من تلك الفترة، وأدع الله ألا يعيدها وأن يحفظ بلادنا بأمان وسلام.
التعليقات