مريم محمد إسماعيل
حرب اكتوبر المجيدة -تلك الحرب- التي أثبتت أنه لا شيء مستحيل، عندما تهاوت حصون خط برليف واحدًا تلو الآخر، ورفرفت الأعلام المصرية فوق أرض سيناء، لقد تركت بصمة واضحة في قلوبنا جميعنا، من منا لم يستودع الله في أب أو جد أو عم أو خال أو شخص عزيز عليه، تلوح ذكراه أمام ناظرينا متذكرين تلك الانتصارات الباهرة، عندما تحقق هدفنا المنشود الذي بدأ من مواقع الدفاع الجوي، عندما أطلقت الضربة الأولى؛ ليتمزق الصمت وترتطم طائرات العدو بحائط الصواريخ، ويتساقط وابل من طلقات مواسير المدافع؛ لتتهاوى طائرات العدو مع النفس الأخير.
تأسيس سلاح الجو المصري لأول مرة
ظهر سلاح الجو المصري لأول مرة عندما طلب البرلمان المصري من الحكومة عام 1928 انشاء قوات جوية مصرية؛ فأعلنت وزارة الحربية عن احتياجها لمتطوعين -عندها- تطوع 200 ضابط، لتبدأ الاختبارات الطبية والفنية الصارمة ولم يخرج ناجحًا من هذه الشروط سوى 3 طيارين: عبد المنعم ميجاويتي، أحمد عبد الرازق، فؤاد عبد الحميد حجاج.
وفي 30 نوفمبر قرر الملك فؤاد انشاء سلاح جو مصري تحت اسم “القوات الجوية للجيش المصري” واقتصرت مهامه -في ذلك الوقت- وحتى 1937 على مكافحة المخدرات والتصوير الجغرافي.
وبلغ تعداد الأفراد التابعين للقوات الجوية آنذاك: 27 ضابط مصر، 415 إجمالي الفنيين.
وكانت القاعدة الجوية الرئيسية هي قاعدة ألماظة الجوية، ولاحقًا تم بناء قاعدتين جديدتين في كل من منطقة قناة السويس والصحراء الغربية.
وفي عام 1937 فصل الملك فاروق سلاح الجو من الجيش المصرى و جعله سلاح مستقل بذاته وأسماه “القوات الجوية الملكية المصرية”.
بدء إعداد القوات الجوية بعد حرب 1967
بعد هزيمة 1967 تعلمت القوات المسلحة الدرس جيدًا، ومن ضمنها القوات الجوية؛ فبدأت تشحذ قواها وتشد الهمم وتستعد لأي ظرف من خلال مجموعة محاور:
فمن ناحية القوة القتالية للطائرات؛ فتم إعادة تخطيط الهيكل التنظيمي وتشكيل لواء استطلاع جوي بوسائل حديثة.
وبالنسبة للطيارين، فعلى الرغم من أن أعدادهم كانت تفوق أعداد الطائرات، إلا أن مرحلة البناء التي خططت لها القوات الجوية كانت تستلزم أعداد كبيرة؛ فتم زيادة الأعداد بالكلية الجوية و-في نفس الوقت- جعلها متناسبة مع الطائرات.
وبالنسبة لمسرح العمليات، تم انشاء مطارات جديدة بالإضافة لغرف عمليات محصنة، وزيادة ممرات القواعد والمطارات والعديد من الدشم المحصنة للطائرات والصيانة.
التخطيط لعمليات الدفاع الجوي في حرب أكتوبر 1973
سميت حرب أكتوبر بحرب المرآة لأنها صورة لما حدث في حرب 1967 لكن بمباغته مصرية عربية، فقد كان هناك مجموعة من الحقائق لا بد من وضعها في عين الاعتبار:
1- قوات الدفاع الجوي ستتحمل العبء الأكبر في مواجهة القوات الإسرائيلية، والعقبة كانت في قصر مدى الطائرات المصرية على توجيه ضربة لقواعد تمركز السلاح الجوي الإسرائيلي.
2- اتساع مسرح العمليات؛ فكان يتطلب وضع خطة متوازنة للمناورات وتحقيق الأهداف بالعمق والكثافة المناسبة.
3- إن حسم النتائج مع القوات الجوية الإسرائيلية في منطقة القناة في الساعات والأيام الأولى أمرًا مصيريًا للقوات المسلحة.
4- يجب أن تكون قوات الدفاع الجوي جاهزة لصد ضربة الإحباط المعادية، و-في نفس الوقت- تحقق مهمتها في حماية القوات البرية في العملية الهجومية.
5- العدو سيحاول تدمير عناصر الدفاع الجوي بالجبهة باستخدام كافة الوسائل؛ فينبغي أن تخرج قوات الدفاع القوي قوية وقادرة على الاستمرار في القتال.
اجراءات الدفاع الجوي في حرب أكتوبر 1973
لمواجهة التحديات السابقة، فإن خطة الدفاع الجوي للعملية شملت الإجراءات التالية:
1- مواجهة الهجمات الجوية المعادية المتوقعة، بتجمعات قوية ومتماسكة ومتكاملة من مختلف أنواع عناصر الدفاع الجوي طبقاً للخطة الدفاعية.
2- عدم إجراء أي مناورة بقوات ووسائل الدفاع الجوي، إلا في آخر وقت ممكن، قبل بدء العملية.
3- التركيز الشديد على حماية المعابر، بحيث تتوافر حماية لكل معبر بقدرة صد لا تقل عن 12 هدفاً في وقت واحد طوال العملية.
4- إنشاء حقل راداري مستتر في الاتجاهات التي يحتمل فيها تقلص الحقل الأصلي.
5- تحقيق تنظيم تعاون وثيق مع القوات الجوية بتوفير الدفاع عن المطارات المتقدمة، عند احتلالها.
بدأ القتال.. إسدال الستار عن معركة أكتوبر
1- قام السلاح الجوي الإسرائيلي، الساعة 9 صباح يوم 6 أكتوبر بطلعة استطلاع جوي بالتصوير، ذلك بالإضافة إلى طلعتي استطلاع إلكتروني قبالة الساحل الشمالي من بورسعيد إلى مرسى مطروح.
2- قام العدو بأول رد فعل لعبور قواتنا بضربة جوية، ابتداء من الساعة الثانية وأربعين دقيقة ظهراً بمهاجمة القوات القائمة بالعبور، واقتربت الطائرات على ارتفاعات منخفضة بقوة 190 طائرة.
3- استخدم العدو الإعاقة الإلكترونية ولكنها لم تكن مؤثرة.
4- ركز العدو هجماته الجوية على المعابر، والقوات القائمة بالعبور ولكن تمكنت قوات الدفاع الجوي من تنفيذ مهامها، في توفير حماية جوية كاملة للقوات البرية، وتمكنت من تدمير 15 طائرة إسرائيلية، وإصابة 16 طائرة أخرى.
5- في حوالي الساعة الخامسة مساء 6 أكتوبر، تم تحليل لنتائج أعمال القتال، الذي أوضح ارتباك السلاح الجوي الإسرائيلي؛ فالطلعات الجوية مرتجلة وغير مخططة جيداً، ومجهود العدو الجوي مبعثر، ولا يتصف بالحسم والتركيز، كما أن مستوى الطيارين أقل كثيراً مما كان عليه أثناء حرب الاستنزاف، وحتى الساعة السادسة صباح يوم 7 أكتوبر، بلغت خسائر العدو حوالي 30 طائرة، وخسر الدفاع الجوي المصري عدداً من الضباط والجنود سقطوا شهداء في ساحة القتال، ولم يحدث أي خسائر في المعدات.
6- نتيجة للضربات الموجعة التي أحدثها الدفاع الجوي المصري، أصدر قائد الطيران الإسرائيلي أوامره، بعدم الاقتراب من القناة إلى مسافة لا تقل عن 15 كم، وهذا يعني هزيمة كاملة ومحققة للقوات الجوية الإسرائيلية.
7- في الصباح الباكر يوم 7 أكتوبر 1973، حاول العدو تنفيذ ضربة جوية ضد القواعد والمطارات المصرية؛ ليكرر ما فعله في حرب يونيه 1967، وقام بالاقتراب لمهاجمة عدد من القواعد الجوية الرئيسية في الدلتا والوجه القبلي والبحر الأحمر.
8- وكانت نصيحة أمريكا أن تحاول إسرائيل تحطيم رؤوس الكباري المصرية خلال الساعات الأولى من نهار 7 أكتوبر، وأن تقوم بتوجيه ضربة قوية ضد حائط الصواريخ مع تجنب القتال المباشر، وهذا ما حاولت إسرائيل تنفيذه يوم 7 أكتوبر.
9- وفي نهاية هذا اليوم، كانت القوات الجوية والدفاع الجوي قد أسقطت للعدو 57 طائرة خلال يومي 6، 7 أكتوبر، منها 27 طائرة في اليوم الأول، كما خسرت القوات الجوية 21 طائرة مقاتلة منها 15 طائرة في اليوم الأول.
10-ركز السلاح الجوي الإسرائيلي يوم 8 أكتوبر هجومه على بورسعيد، ودارت معارك شرسة مع قوات الدفاع الجوي ووصل عدد الطائرات المهاجمة إلى أكثر من 50 طائرة، واستمر الصراع في سماء بورسعيد بين القصف الجوي العنيف وإصرار عناصر الدفاع الجوي بالمدينة على التصدي للطائرات الإسرائيلية، وتكبيدها خسائر كبيرة.
11- لاستعادة الموقف المتدهور الذي دهم حصون خط بارليف في ساعات قليلة وبعد فشل محاولات توجيه ضربات جوية إلى القواعد الجوية، ركز السلاح الجوي الإسرائيلي على قصف المعابر على القناة ووسائل الدفاع الجوي عنها، ومهاجمة مواقع الرادار؛ لإحداث ثغرات في الحقل الراداري.
12- استمرت قوات الدفاع الجوي في توفير الوقاية الكاملة للقوات شرق القناة وغربها، وكذا للقواعد والمطارات والأهداف الحيوية في عمق الدولة، وذلك بالتعاون مع مقاتلات القوات الجوية.
كيف هُزم السلاح الجوي الإسرائيلي؟
1- دخل السلاح الجوي الإسرائيلي حرب 1973، وهو يمتلك من الإمكانيات ما يؤهله ليكون من أكفأ القوى الجوية في العالم بعد القوى العظمى.
2- ركز السلاح الجوي الإسرائيلي في الأيام الأولى للقتال على توجيه ضرباته إلى المعابر والقوات القائمة للعبور؛ مما أعطى فرصة ذهبية لقوات الدفاع الجوي لإحداث خسائر جسيمة بطائراته.
3- حاول شن ضربة جوية مركزة على القواعد الجوية والمطارات في العمق، ولكنه فشل في تحقيق هدفه، وقامت قوات الدفاع الجوي بالتعاون مع المقاتلات في صد هذه الهجمات.
4- ركز السلاح الجوي الإسرائيلي الهجوم على قطاع بور سعيد وتصدت له وسائل الدفاع الجوي وأسقطت له العديد من الطائرات.
5- فشل السلاح الجوي الإسرائيلي في تحقيق المفاجأة في هجماته عند اقترابه على ارتفاعات منخفضة ومنخفضة جداً؛ بسبب يقظة شبكات المراقبة الجوية بالنظر، ونجاحها في توفير الإنذار لوسائل الدفاع الجوي، وسد ثغرات الحقل الراداري على الارتفاعات المنخفضة والمنخفضة جداً.
6- لم تكن أعمال الجانب الإسرائيلي الإلكترونية مؤثرة على أعمال قتال الدفاع الجوي المصري؛ بسبب الأساليب والأجهزة المتطورة التي استخدمت لمجابهة أعمال الإعاقة بأنواعها.
7- لم تحقق الأسلحة المضادة للرادار، مثل الصواريخ شرايك والمافريك أهدافها؛ بسبب الإجراءات والاحتياطات المضادة التي اتخذتها قوات الدفاع الجوي المصري للتقليل من تأثيرها.
8- خاض السلاح الجوي الإسرائيلي معارك جوية رهيبة مع المقاتلات المصرية وبأعداد كبيرة من الطائرات، وكانت هناك ندية قوية من الجانب المصري؛ بسبب التدريب الجيد، وتطور عمليات التوجيه لمقاتلاتنا، وتنفيذ خطة تنظيم التعاون مع وسائل الدفاع الجوي في المنطقة الواحدة بدقة بالغة.
9- أخفق السلاح الجوي الإسرائيلي طوال أيام القتال في تدمير طائرة مصرية واحدة وهي جاثمة على الأرض.
في النهاية أثبت الدفاع الجوي المصري أنه السلاح الأول في معركة العبور، وصاحب الانتصار العظيم في الملحمة التاريخية، فقد سخر جهوده لتسديد الضربة الأولى، وواصل على المنهاج حتى صنع فخرًا وذكرى لا تُنسى.
التعليقات