الزمان: 1941
المكان: شارع القبة بمصر الجديدة
قصر الطاهرة.. وسط حي مصر الجديدة العريق، يقف قصر الطاهرة شامخًا كجزء من تاريخ مصر المليء بالأحداث والشخصيات، حيث امتزجت فيه الفخامة الملكية بحكايات القوة والإرادة الوطنية.
لذلك استعد معي لآخذك في جولة سحرية بين ثنايا القصر الملكي تنهل منها عبق التاريخ وذكريات الماضي.
قصر الطاهرة.. حكاية اسم
دعنا نذهب إلى أواخر القرن 19، عندما أهدى الخديوي إسماعيل لابنته الأميرة أمينة هانم، فيلا صغيرة في شارع القبة بمصر الجديدة.
وحمل هذا البناء اسم (قصر الطاهرة) نسبة إلى محمد طاهر باشا، ابن الأميرة أمينة هانم الذي سكن لفترة مع والدته بالقصر.
أيقونة الجمال الإيطالي
في عصر الملك فؤاد الأول تم تحويل الفيلا الصغيرة إلى قصر على الطراز الإيطالي، واستغرق التعديل عامين بدأ من 1926 حتى 1928.
كما عمل على التصميم المعماري الإيطالي، أنطونيو لاشياك، الذي استطاع أن يجعله آية في الروعة والجمال.
فعلى الرغم من مساحته الصغيرة نسبيًا، إلا أن مصمم القصر تمكن ببراعته من استغلال المساحة جيدًا، ليخلق توازن وجاذبية في الشكل العام والأركان.
وتم البناء على الطراز الإيطالي، كما يظهر بوضوح في السلالم الرخامية والأسقف المرمرية.
وقد أتقن أنطونيو إبداع كل ركن، كما أتقن -سابقًا- بناء قصري الأمير يوسف كمال بحي المطرية والأمير سعيد باشا بشارع شامبليون بوسط القاهرة.
وقد كان لتأثيث القصر من الداخل واختيار ديكوراته، دور مهم في توفير الشعور بالترحاب والراحة للزائر والمقيم.
لذلك وزعت التحف وقطع الأثاث داخل الغرف بتناسق وجمال ينم عن ذوق رفيع.
حكاية بناء.. هدية من الملك فاروق للملكة فريدة
في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1941، قرر الملك فاروق اعطاء زوجته الملكة صافيناز يوسف ذو الفقار التي لقبت بالملكة فريدة، هدية في أحد أعياد ميلادها، تمثلت في قصر ملكي فخم.
لذلك اشترى الملك فاروق قصر الطاهرة من محمد طاهر باشا بمبلغ 40 ألف جنيه، وكانت مساحته تبلغ 1300 متر مربع.
وفي عام 1942 اشترى الملك فاروق الفيلا المجاورة للقصر والتي بلغت مساحتها 1942 وضمها للقصر.
كما ضم إليه عددًا من الأراضي حتى بلغت مساحته 8 فدادين.
بعد ذلك انتقل محمد طاهر باشا للإقامة في فيلا أنيقة بحي الزمالك.
الملكة فريدة تحصل على لقب الطاهرة
تغير اسم القصر أكثر من مرة عبر الزمن، فقد بدأ باسم (قصر الطاهرة) نسبة إلى محمد طاهر باشا.
وفي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين أثناء زيارة الأمير محمد رضا بهلوي، ولي عهد إيران لمصر، أطلق على القصر اسم (ملحق قصر القبة) و(ملحق الضيافة الرسمي) لكن تغير مرة أخرى لـ (القصر الطاهري).
كما أطلق على القصر أيضًا اسم (تحفة القصور) و(السرايا الكبرى).
لكن بعد أهداء الملك فاروق القصر لزوجته الملكة فريدة، عاد القصر ليحمل اسم (قصر الطاهرة) من جديد؛ نسبة إلى اللقب الذي أطلق على الملكة فريدة حينها (الطاهرة).
فقد أحبها الشعب المصري كثيرًا عند زواجها من الملك فاروق، لذلك أطلقوا عليها لقب الطاهرة من فرط حبهم لها.
جولة خارجية لقصر الطاهرة
استعد الآن لنعيد عبق التاريخ وذكريات الماضي من خلال جولة داخل جنبات القصر.
تبدأ مع وصولك إلى البوابة الرئيسية بشارع القبة، حينها ستشاهد أمامك وخلف السياج مبنى ضخم مرصع بالتحف والزخارف والتماثيل المعلقة.
بعد أن تُفتح لك البوابة وتخطو أول خطواتك إلى الداخل، ستبدأ في استنشاق أريج الزهور الخلابة من حديقة القصر مترامية الأطراف، التي تمكنت من خلق تناسق رائع بين بهاء المبنى وروعة الطبيعة.
وداخل الحديقة سيقع ناظريك على نافورة من الرخام، لربة البحر الأغريقية القديمة، عمل عليها النحات الفرنسي ماتورين مورو في القرن 19، لاستجلاب النسيم للزوار عبر نفحات الماء.
وعلى الاستراحات الراقية يمكنك التأمل والاسترخاء حيث لا مكان للصخب وصفير القطارات.
تابع المسير إلى الداخل أكثر فأكثر، ستجد أنك وصلت إلى مبنى القصر الرئيسي الشامخ، وعلى جانبيه يمكنك رؤية المبنى الإداري، وصهريج المياه ومبنى الجراج وجناح الخدم.
السلاملك والحرملك.. جولة داخلية في قصر الطاهرة
دعنا نتوجه صوب سلالم المبنى الرئيسي، وليُفتح الآن باب القصر ليكشف لنا عن أسراره وكنوزه، التي سنراها في كل جانب ابتداء من السلم الرخامي الأبيض وحتى الأسقف المرمر.
ومن الوهلة الأولى ستجد أن القصر يتكون من 3 أجزاء البهو الأرضي والسلاملك المخصص لرجال الدولة والحرملك المخصص للعائلة الملكية.
أولًا: البهو الأرضي
نحن الآن في البهو الأرضي، نرى الإبداعات في كل مكان، وعلى بعد خطوات من باب القصر تطالعنا غرفة كبيرة تعرف بصالة البلياردو.
تتوسطها طاولة البلياردو المصنوعة من خشب الأبنوس المطعم بالبرونز من طراز بول، أهداها ملك فرنسا لويس فيليب إلى محمد علي باشا في القرن 19، ونقلها الملك فاروق للقصر.
وعلى جانب من الطاولة الأسطورية مجموعة من عصي البلياردو، المصنوعة من خشب الأبنوس المطعم بالعاج في حافظة مذهبة.
وأمام طاولة البلياردو يوجد دولاب السيجار الملكي، المصنوع من الزجاج والفضة.
وفوق الطاولة توجد صورة شهيرة للرئيس الراحل أنور السادات، وحوله قادة القوات المسلحة، يقفون حول طاولة البلياردو، ويتناقشون عليها خطط العمليات الحربية.
وعلى جانب صالة البلياردو يوجد غرفة الخرائط، التي تضم مجموعة من الخرائط الضخمة لسيناء وعمليات العبور.
الطابق الأول.. السلاملك
وفي طريقنا إلى البهو الرئيسي نجد سلم من الرخام الأبيض، تحيط به مجموعة من اللوحات النادرة والتحف الأثرية موزعة بشكل فني.
1- البهو الرئيسي
نصل إلى البهو الرئيسي في الطابق الأول، الذي يزين سقفه المرمر، وتم تقسيمه إلى مربعات؛ ليعكس الضوء بشكل بديع.
وتحت السقف يوجد طاولة تحمل شمعدانين مزخرفين بالنقوش، وفازة من الرخام يزينها تماثيل على شكل ملائكة من البرونز والفضة، أهداها أعيان الفيوم للملك فاروق في ذكرى زواجه.
وأسفل الطاولة يوجد سجادة أثرية، منقوش على أطرافها الحروف الأولى من اسم محمد علي باشا.
وأمامنا على جدران البهو لوحتان زيتيان، أبدعهما الفنان العالمي ميكال، أحدهما تصور راعية الغنم في موسم الحصاد والأخرى في موسم الجفاف.
كما نمر على دولاب يضم أندر أنواع الجاليه في العالم، للفنان الفرنسي إميل جال.
2- ركن نابليون
على يسار البهو نجد ركن نابليون، الذي يحتوي على مجموعة من التماثيل الخاصة بنابليون بونابرت، وأريكة من الخشب الماهوجني تحمل اسم الوالي محمد سعيد.
كما نرى في الأعلى نجفة على شكل سفينة شراعية، مصنوعة من البرونز وقطع من الصدف المعشق بالرصاص.
3- الصالون العربي
على يمين البهو الرئيسي ندخل الصالون العربي، الذي يتميز بزخارفه العربية والإسلامية، وتتجلى في السقف الخشبي الذي يحمل آيات قرآنية وزخارف نباتية إسلامية نجفة كرستالية.
كما نجد في الواجهة المدفأة المصنوعة من القيشاني، كأنها لوحة زيتية بديعة يعلوها عبارة “ولا غالب إلا الله”.
وعلى يمين المدفأة ويسارها سجادتين من السجاد القاجاري المتقن، وفوقها أريكة وكراسي أثرية خلابة.
وعلى الركن الأيمن يوجد صندوق المصحف، المصنوع من الخشب المطعم بالصدف والعاج، والمزين بحليات من الفضة وفصوص من الفيروز والزفير الأزرق، وتم اهداؤه للملك فاروق بمناسبة زواجه من الملكة فريدة عام 1938.
كما تكتمل حلية المكان بشكمجية من خشب الأبنوس المطعم بالصدف، ومزخرفة بآيات قرآنية مكتوبة بالخط الكوفي.
4- الصالون الخاص
نعود إلى البهو لنعبر منه إلى الصالون الخاص، الذي يضم مجموعة من الآثاث طراز لويس الرابع عشر القرن 20.
وأكثر ما سيأخذ ناظريك هي منضدة الموازيك، فهي مزيج من الفنون المتكاملة التي تمثل دقة الصنعة.
يعلوها قرص من الرخام يحمل لوحة من الفسيفساء، تمثل مبنى الفاتيكان وحوله أشهر المعالم التاريخية الإيطالية.
وقد أهدى شاه إيران محمد رضا بهلوي تلك الطاولة للملك فاروق.
كما ترى أيضًا طاولة ألمانية الصنع، عليها عبارات باللغة الألمانية وتحمل صور لمجموعة من الفتيات.
5- قاعة الطعام
نتجه إلى يسار الصالون الرئيسي لندخل إلى قاعة الطعام الرئيسية المصممة على الطراز الإنجليزي، وتضم 24 كرسي من الخشب.
ويزين الجدران مجموعة من الأطباق الصيني للأمير يوسف كمال.
ومن أجمل محتويات القاعة المدفأة الرخامية.
6- المكتب الملكي
من حجرة الطعام نتجه إلى المكتب الملكي الذي يسبقه صالون صغير خاص بالمكتب، ومن أندر تحفه ذاك الدولاب المصنوع من خشب الأبنوس المطعم بالفضة الخالصة.
وأمامنا فوق المدفأة تستقر ساعة بديعة من خشب الأبنوس والبلور، والحليات البرونزية الرائعة.
كما نجد في ركن الصالون ساعة من البرونز تمثل أسطورة من أساطير الاغريق.
ونصل من خلال الصالون الصغير إلى غرفة المكتب، التي تضم مكتب من طراز لويس السادس عشر.
كما توجد خزانة من الخشب والعاج ودرق السلحفاة -الصدفة-، تحمل مناظر من قصص الأديب الأسباني العالمي سيرفانتس.
الطابق الثاني.. الحرملك
نحن الآن في البهو العلوي حيث تجد الكثير من الأيقونات والأعمال الرائعة والبديعة، منها فازات من عصر النهضة الأوروبية كل فازة تحمل حكاية خاصة.
كما يتدلى من سقف البهو نجفة من عالم الخيال والأسطورة، تحمل تماثيل على شكل رأس ببغاء بجسد حصان مجنح.
1- غرف النوم
تضم كل غرفة مجموعة من التحف والأيقونات الخلابة، منها بايوه من الخشب المغطى بقشرة الأبنوس ودرق السلحفاة.
كما نرى دولاب مطعم بالفضة لحفظ الكريستال، وسرائر ملكية فخمة مطعمة بالفضة والذهب.
2- الحمام الكبير
سترى حمام متفرد في تصميماته فهو مزيج من الطراز الشرقي والغربي والعثماني.
3- صالون العائلة
ستجد بيانو من طراز بول، يعلوه لوحة زيتية للأميرة فاطمة ابنة الخديوى إسماعيل تؤرخ لعام 1930.
كما يوجد أيضًا صندوق من الرخام المطعم بزخارف برونزية، والعديد من الصور واللوحات الزيتية والفسيفساء.
بعد الطلاق.. انتقال ملكية قصر الطاهرة
عندما اشتد الخلاف بين الملكة فريدة والملك فاروق وانتهي الأمر بالطلاق استرد الملك هذا القصر من الملكة مقابل وقفة عليها 17000 فدان.
وأمر الملك فاروق بإقامة سور كبير حول القصر والحدائق على غرار سراي القبة.
انتهاء الحكم الملكي.. مصادرة قصر الطاهرة
تمت مصادرة القصر ضمن القصور الملكية بعد ثورة يوليو 1952م.
كما تم بيع الكثير من أثاثه ومفروشاته وتحفه في العديد من المزادات.
قصر الطاهرة.. دخول قائمة التراث
تم تسجيل قصر الطاهرة ضمن قائمة الآثار الإسلامية بهيئة الآثار المصرية في شهر مايو عام 2015.
وبهذا فإن قصر الطاهرة الذي يروي فصولًا من تاريخ مصر العريق، ويجمع بين أناقة العمارة الأوروبية وسحر التراث الشرقي، وقف شاهدًا على عظمة الماضي وعراقة الحضارة.
التعليقات