مي زيادة.. في ذكرى وفاة «فراشة الأدب».. تعرف على المأساة التي عاشتها صاحبة «صالون الثلاثاء»
مي زيادة

مي زيادة.. عاشت للحب وماتت وحيدة، كانت حياتها أشبه بالمد والجزر أشهر كتبها.

تشابكت خيوط حياتها مع الكثيرين منهم من ارتوى بحبها ومنهم من اكتوى بعشقها.

ينظرون إليها كملاك رحيم يسقط من السماء، والبعض رآها سراج منير يضئ بسناه أحلك الليالي.

حظت بشعبية واسعة وشغلت الجميع في حياتها وبعد مماتها، كُتبت فيها قصائد الغزل والرثاء، وكانت المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراعية المثقفة.

ذكر أنها فاتنة الجمال وكانت محط أنظار وإعجاب الكثير من الأدباء المعروفين آنذاك، إنها ينبوع الجمال وفراشة الأدب وفي ذكرى ميلادها نستعرض أهم محطات التي مرت بها في حياتها.

ميلاد فراشة في حدائق الأدب

حفل عام 1886 بقدوم الأديبة مي زيادة بدولة فلسطين تحديدًا في مدينة الناصرة من أب لبناني الأصل إلياس زيادة، وأم سورية نزهة معمر، التي كانت لها خلفية أدبية وثقافية عريقة.

وقد حظيت فراشتنا باهتمام كبير من والديها كونها الابنة الوحيدة لهما خاصة بعد وفاة أخيها، لدرجة جعلت والدتها تقول:

“أن من ينجب ميّاً، لا يُنجب غيرها”.

مي زيادة

فنون وعلوم حصدتها وهي خضراء السنون

كانت مي زيادة نابغة عصرها كما قال عنها العقاد “لها حجى ينفذ بالصواب، وذكاء ألمعي كالشهاب”.

تعلمت في صغرها بمدارس الناصرة الابتدائية، التي كان لها وقع حسن عليها فكانت تذكرها دائمًا شاكرة إياها على ما عاشته فيها.

وفي سن 14 عادت فراشة الأدب لموطن أبيها في لبنان وتابعت دراستها في دير الراهبات بمنطقة عينطورة.

واهتمت بدراسة اللغة العربية، واللغات الأجنبية، بالإضافة إلى جوانب أخرى تتعلق بالفن، والغناء والموسيقى.

فتعلمت العزف على آلة البيانو، حيث كانت ترى في الموسيقى تسلية لها لما تعيشه من الغربة، قائلة:

“إنّها تُنِيلُني أجنحة، وتطير بي إلى عوالم لا يطرقها غيرها”.

وفي عام 1908م انتقلت عائلة مي زيادة إلى مصر واستقروا في القاهرة.

فدرست في جامعتها الفلسفة وآداب اللغة تاريخها بالإضافة إلى اللغات المختلفة، مثل: الفرنسية، والسريانية، واليونانية القديمة، واللاتينية.

وكذلك الإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، كما أنها دخلت مسيرة التربية والتعليم وعملت بها.

مي زيادة

صالون أدبي للأديبة مي زيادة

كانت مي زيادة مثال للفتاة المثقفة فقد هوت القراءة والكتابة منذ نعومة أظافرها، وأجادت العديد من اللغات وذاع صيتها في العالم أجمع يعلنون عن مجيء زهرة عطرة غطى فاح عبقها في ربوع الأدب.

فأقامت فراشة الأدب صالونًا أدبيًا عام 1912 استقبلت فيه العديد من الأدباء والمثقفين، مما جعل شعبيتها تفيض أكثر الأوساط الأدبية، وتردد إلى صالونها الأدبي كبار الكتاب والأدباء.

مي زيادة.. حب عذري

إنها مي زيادة “ذلك الحصن المحاط بخندق” هكذا وصفها الأديب الراحل عباس العقاد، وكان أحد الأربعة الذين أسرت قلوبهم أحمد شوقي والرافعي وجبران خليل جبران.

لكن قلبها لم يخفق سوى لشخص واحد الشاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران.

رغم أنهما لم يلتقيا سوي مرة واحدة، ولكن دامت بينهها المراسلات لمدة عشرين عام.

فقد كان الرجل الوحيد الذي بادلته حبا روحيًا عذريًا، فلا يسعنا سوى الغرق بين سطور كتبها ليصيبنا نهم كبير، ونقلب الصفحات واحدة تلو الأخرى لنرى الرومنسية الفائضة التي تغنت بها برسائلها لجبرن خليل جبران.

مي زيادة

رسائل فراشة.. جمال تصحبه حلاوة

كان أسلوب مي زيادة في طرح الرسائل سهلًا واضحًا دقيقًا فكانت تعكس عقلها وقلبها وثقافتها الواسعة معًا، حتى تجعل أصدقاءها يحتفظون برسائلها؛ لما تحتويه من لطف، وأدب الخطاب فقال عنها أحمد شوقي:

“إذا نطقت صبا عقلي إليها وإن بسمت إليَّ صبا جناني”.

وكان جبران خليل جبران يعجب من جمال رسائلها قائلًا:

“ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها، فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي، إن يومًا يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل”.

أما أسلوبها الأدبي فكان يتسم بالبساطة، والجمال، والعفوية، والإبداع جامعًا أساليب منوعة للغات الاجنبية فقال عنه أحد أساتذة جامعة هامبرغ:

“أن المرء يجد فيه توازن الإنجليزية، ودعابتها، ودقة الألمانية وأحكامها، ورشاقة الفرنسية، وحيوية باقي اللغات اللاتينية”.

وأحيانًا كانت تتبع العرض المنطقي والهندسي لما تطرحه، فتقول مثلًا واصفة البحر:

“البحر هو أحد أقانيم حبي، وحبي مثلث الأقانيم، السماء، والبحر، والعيون”.

وأحيان أخرى تلجأ للعرض التسلسلي، ويظهر ذلك في مقالاتها مثل: “كالعيون”، و”كن سعيداً”، و”الموضوع التّائه”، وكثيرًا ما استخدامت طريقة السرد التشويقي في عرض أفكارها والانتقال بينها بطُرق مختلفة وأخيرًا إيراد الحكمة في نهاية النص الأدبي.

لم تكن “مي” لكن رغبت أن تكون

هي السندبادة البحرية التي تفرد الشراع وتلين بكرته لركوب أمواج اللغة وسحرها وتطلق العنان لروحها لتلقبها أي ما رغبت من الأسماء.

فهي أيزيس كوبيا في ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية التي كتبها واسيني الأعرج لاحقًا.

وهي مداموزيل صهباء كما كان يدعيها الدكتور ذكي مبارك في فترة دراستها بالجامعة المصرية إشارة لمعنى اسمها بالفارسية وهو الخمر.

كما أنها كنار التي راسلها يوسف الحويك في صغره حيث يحكي أنه عندنا زارها، بعد محنتها عام 1938، سألها عما إذا كانت تعرفه من قبل؟ فأخذت مي تضحك، ثم قالت:

أنتم الرجال بهاليل، وأكملت: ألم تكن في مدرسة عينطورة عام 1903؟ فصدق الحويك على كلامها، فتابعت مي قائلة: وكان لك رفيق هو ابن عمي نعوم زيادة، أجاب الحويك: نعم هو بذاته، عادت مي إلى أسئلتها: أما كان هناك مراسلات حبّية بين “نعوم وكنار” التلميذة في مدرسة الراهبات المشارفة من مدرستكم؟ عقدت الدهشة لسان الحويك، فلبث صامتًا، هنا أخبرته ميّ: كنت أعلم أنك أنت الذي يكتب هذه الرسائل لقريبي نعوم، ويجيب نعوم مستسلما: نعم أنا الذي كان يكتب هذه الرسائل، فتطرح ميّ استفهاما جديدا: ولماذا لم يخطُر لك أن تتحقق عمن تكون التي أجابت على رسائلك؟

إلا أنها فضلت اسم “مي” كونه خفيفًا سهلًا في النطق مألوفًا على مسامع العرب.

فكانت توقع مقالاتها “بقلم الآنسة مي” مما لفت الأنظار إليها في صباها، إلا أن توقيعها بعد ذلك اختلف طبقًا لطبيعة حالها، حيث أشارت إلى ذلك في رسالتها الأولى لجبران خليل جبران عام 1921:

“أمضي مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الأول والأخير من اسمي الحقيقي الذي هو ماري، وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية، غير أن هذا لا أسمى ولا ذاك، إني وحيدة والدي، وإن تعددت ألقابي”.

مي زيادة.. تجارب مأسوية

كان ”المد والجزر” عنوان حياتها التي مُلئت بالكثير من المحطات، وزخرت بالعديد من التجارب، وعاصرت الآف اللحظات العطرة والعطبة.

لقد عاشت تجارب متتالية من الفقدان، رحل والدها فجأة بسكتة قلبية عام 1928، ثم رحل جبران بعده بعامين، ثم ماتت والدتها.

فكانت تعاني حالة من الحزن وتعيش في حداد كبير، وقد وصف مثقفون جنونها بأنه “حالة مبالغ فيها من الحداد”.

عزلت مي زيادة نفسها وكانت كئيبة تكتب عن المآتم والجنائز، وزاد الأمر سوءً حصولها على ميراث كبير.

فطمع فيه أبناء عمومتها، وحبسوها في بيتها، فأضربت عن الطعام، وأعطاهم هذا مبررًا للادعاء بأن لديها ميولًا انتحارية، وأدخلوها مستشفى “العصفورية” بعد حقنها بالمورفين.

مكثت مي في “العصفورية” 10 أشهر ونصف، ثم نقلت إلى مستشفى نفسي آخر 10 شهور أخرى.

وبعد تدخل كبير لشخصيات سياسية مثل ملك الأردن عبدالله الأول، وثقافية مثل أمين الريحاني، أُخرجت مي إلى مستشفى الجامعة الأميركية وبقيت 3 أشهر.

بعد ذلك دخلت في معارك قانونية، لإثبات صحتها العقلية فكتبت “رسالة الأديب إلى أهله” حتى تثبت لهم أنها ما زالت تلك المثقفة اللامعة، وبفضل ذلك ألغي عنها الحجر والوصاية القانونية عام 1938.

رحلت روح فراشة الأدب عن عالمنا لتسبح عاليًا في أعماق الفضاء عام 1941 بمستشفى المعادي في القاهرة عن عمر يناهز 55 عامًا.

عانت الحب فتعلمت، وأثمرت، وتركت لنا سلسلة من الكتابات الراقية تشرح مراحل حياتها النقية، لتتربع القمة بطلتها البهية وقلمها الساحر.

اقرأ أيضا: 

إبادة جماعية لأهل غزة.. وإخلاء 29 مستوطنة إسرائيلية.. مصير الحرب إلى أين؟

خلق أسطورة الرعب.. في ذكرى ميلاده تعرف على «برام ستوكر» كاتب رواية «دراكولا»

مؤامرة صهيونية.. السبب الحقيقي وراء دعوة إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى جنوب غزة

حرب الفبركة الإعلامية.. أداة تستخدمها إسرائيل وتروجها أمريكا لحشد المجتمع الغربي ضد فلسطين

الدوري السعودي.. الهلال يستعيد الصدارة والتعاون في المركز الثاني.. أخبار ونتائج المباريات وترتيب الجدول

التعليقات