
الزمان: البداية في العصر الفاطمي.
المكان: مصر.
العيدية.. دق الباب أغلى الأحباب، وتزينت له الشوارع بالترحاب، ليحل علينا كنسيم خفيف يشرح الصدور ويفرح القلوب.
فما أجمل أن ترى الأطفال يلعبون هنا وهناك، فرحة بمجيء عيدهم السعيد، والكبار ينظرون إليهم والبسمة ترتسم على محياهم عندما يعطونهم العيدية، التي اعتبرت أعز رفاق عيدنا المبارك.
ولكن لحظة منذ متى يعرف العيد صديقته العيدية، وهل هي حديثة العهد به أم لهما جذور ضاربة في القدم.. أتتخيل أن يأتي العيد دون أن تكون هناك عيدية!
لا مكان لعيد بدون عيدية
إن تحدثنا عن العيد فيعني ذلك أننا نتحدث عن البهجة والسعادة والتفاؤل والفرح والمرح، حيث يأتي عيد الفطر المبارك بعد طاعة وعبادة طوال شهر رمضان؛ ليكافئ الله تعالى عباده الصائمين إيمانًا واحتسابًا.
ومن هنا يبدأ العيد مع زيارة الأهل والأقارب، ثم التنزه في الحدائق أو الأسواق وبالطبع اللعب بأشياء شتى، وتأتي على مقدمة هذه العادات العيدية التي توجت القمة منذ ظهورها.
والعيدية ظاهرة اجتماعية جميلة اقترنت بالعيد واشتقت من اسمه، فتعني العطف أو العطاء، فبإمكانك أن ترى اللهفة في عيون الأطفال عندما يحصلون عليها، ويسيرون في الشوارع متباهين بها، لدرجة أنه لم يعد هناك معنى للعيد بدون عيدية.
1- العصر الفاطمي.. حيث بدأت الحكاية
هل دار ببالك أن أول ظهور للعيدية لم يكن من أجل توزيعها على الأطفال كما يحدث حاليًا، إن فكرت في ذلك فتفكيرك سليم مائة بالمئة، فظهور العيدية الأول كان مختلف تمامًا عما نراه الآن.
ويمكن القول أن صاحبة فكرة العيدية كانت الدولة الفاطمية، التي عرفت بحبها للإحتفالات وإحياء المناسبات العامة.
ولا يفوتنا الحديث هنا عن اهتمامها بذكرى المولد النبوي وعرائس المولد، وغيرها من الطقوس الأخرى بدء بفانوس رمضان مرورًا بالمسحراتي وصولًا إلى سيدة المقام الرفيع العيدية.
تبدأ الحكاية مع الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، الذي أراد أن يستميل المصريين إلى صفه في بداية حكمه، فكان دائم العطايا، يقوم بتوزيع الحلوى والهدايا، ويقيم الموائد ويجزل في الهبات والعطايا.
إلا أنه رأى أن ذلك غير كاف، وأنه مع موته وقدوم حاكم آخر، قد يتم منع العطايا عن الرعية وتضيع كل جهوده السالفة سدى.
لذلك قرر أن يخصص ذكرى دائمة تبقى مع الناس على مر العصور ولا ينسوه بها.
وأصبح مع حلول كل عيد يهدي بنفسه الكثير من الدراهم الفضية، للفقهاء والقرّاء والمؤذنين عند انتهاء ختمة القرآن ليلة العيد.
وعرف هذا الطقس باسم “التوسعة” أو “الرسوم” لتظهر لنا العيدية بثوبها الأول كمبلغ مالي يوزعه الخليفة على أرباب الدولة.
كما كان يطل من قصره صبيحة يوم العيد، وينثر الدراهم والدنانير الذهبية على من حضر من عامة الناس.
ولم يكتف المعز بذلك فقط بل قدم الكسوة لعامة الشعب وخواصهم، إلى جانب المعايدات والكعك والحلوى الذي كان وزعه بكميات كبيرة في الطرقات.
بذلك بلور الفاطميون العيد بأشهر طقوسه المعروفة العيدية التي استمرت في التحديث الدوري مع دخول كل عصر جديد.
2- العصر الأيوبي.. تراجع في المهد
توقع الجميع أن تستمر العيدية لمئات بل والآلاف السنين، خاصة وأنها حديثة العهد بالظهور وقد لاقت استقبالًا حافلًا وترحابًا من كافة الشعوب، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
فقد تراجعت طقوس الاحتفال جزئيًا بشكل غير متوقع في العصر الأيوبي.
وبصفة خاصة عندما بدأت الحرب تعرف طريقها لبلدة السلام، واندلعت الحروب الصليبية كوحش كاسر يأبى الخمود.
بالتالي كان هم الدولة الشاغل توحيد الرايات والوقف في وجه هادم اللذات، فلم يكن الوقت سامحًا للأعياد أو الاحتفالات.
3- العصر المملوكي.. عودة بشكل واسم جديد
مع دخول عصر المماليك واستقرار حكمهم في البلاد؛ عادت طقوس الاحتفال من جديد وازدهرت بشكل كبير.
وعُرفت العيدية آنذالك باسم “الجامكيّة”، وهي كلمة تركية تعني الثوب أو الملابس.
وقصد بها المال المخصص للملابس، حيث قصد المماليك إعانة الرعية وتمكينهم من شراء ثوب جديد للعيد بهذه النقود.
وسمي على إثر ذلك عيد الفطر بعيد “الحلل” أي الذي نشتري فيه حلة أي ملابس جديدة.
وأصبحت “الجامكيّة” مبلغ مخصص يعطيه السلطان كمرتب خاص للأمراء وكبار دولته وحتى موظفيه، وخصصت لها ميزانية مستقلة بلغت حوالي 16 ألف دينار لعام 515 هـ.
وكان السلطان في صباح يوم العيد يخرج مع الأمراء والعساكر لأداء صلاة العيد، مرتديًا زيًا باللون الأبيض مزينًا بالذهب والفضة.
وبعد انتهاء الصلاة، كانت تقام ولائم لعامة الشعب والجنود والأمراء، وتوضع الدنانير الذهبية والفضية في وعاء مملوء بالكعك والبسكويت، ثم توزع على الحضور.
4- العصر العثماني.. الدولة تنسحب
تغير شكل العيدية عندما خط التاريخ بداية العصر العثماني، حيث انسحبت الدولة عن أداء الطقوس المعتادة على عكس العصور السابقة.
فلم تعد العيدية مبلغًا تصرفه الدولة على رعاياها، وإنما تحول الأمر إلى ثقافة وعادة شعبيّة يقوم الناس بأدائها فيما بينهم، كنوع من التعبير عن البهجة والمعونة.
لكن انحسرت العادة في الأرياف والبوادي؛ بسبب صعوبة ظروف المعيشة.
وارتبطت الطقوس أكثر بأهل المدن والحضر، ولم تقتصر على المبالغ المالية فقط.
بل ظهرت في أشكال مختلفة مثل: الهدايا والطعام والملابس، وغيرها.
العيدية كما نراها الآن
مع التطور الهائل الذي شهدته العيدية منذ ظهورها، صار اعطاؤها يقوم في الأساس على رب الأسرة.
وأصبحت تُقدر حسب الفئة العمرية والمكانة الاجتماعية، فاعتبر الأطفال المستقبل الأول لها، ثم تأتي الزوجة والبنات الأكبر سنًا.
وبالرغم من شمول العيدية أشكالًا كثيرة من هدايا وألعاب وحلوى وملابس، إلا أنها صارت ترتبط تحديدًا بالمبلغ النقدي.
وأصبحت العيدية بمثابة كنز ثمين للأطفال؛ فهي أول مبلغ مالي معتبر يمتلكونه في مقتبل حياتهم.
كما باتت بهجة العيد مقترنة بالحصول على العيدية.
العيدية أصل واحد وفروع مختلفة
وإذا اطرقنا النظر قليلًا إلى جيراننا من الوطن العربي، سنجد أن العيدية عرفت طريقها إلى كل دولة بأسلوبها الخاص.
فمثلًا في السعودية، يطلق على العيدية اسم “الحوامة” أو “الفرحية” و”الحقاقية”، ويأخذها الأولاد أول يومين والبنات يحصلن عليها في اليوم الأخير.
أما في سوريا تُعرف باسم “الخرجية”، بينما يطلق عليها في المغرب اسم “فلوس العيد” وقيمتها تكون محددة، وفي الكويت تسمى “القرقيعان” وتكون عبارة عن خليط من المكسرات والزبيب، ويدعوها الجزائريون باسم “عارفة اليد”.
العيدية هل لها أصل في العهد النبوي؟
حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على إرساء تقاليد الفرح والبهجة بمناسبة حلول العيد، وجاء في العبادات ما يعتبر بدايةً لـ”المعايدة” المرتبطة بالإهداء والعطاء.
ففي عيد الفطر، كانت زكاة الفطر الواجب أداؤها على كل فرد قبل دخول العيد، وهدفت لتحقيق التكافل بين أفراد المجتمع، وإدخال البهجة والسعادة إلى قلوب الفقراء والمحتاجين. وفي عيد الأضحى، كانت الأضاحي هي الوسيلة لتحقيق التكافل ومساعدة المحتاجين وإسعادهم.
وفي النهاية يمكننا القول أن العيدية أدت دورها بجدارة في صفحات التاريخ، وإلى الآن حتى إذا دون الحالي ماضيًا؛ لذا لم يعد الناس قادرين عن التخلي عنها، وإليك إجابة سؤالنا الأول: لا يمكن أن نتخيل العيد أبدًا بدون عيدية فهي ببساطة نكهة الأعياد.
التعليقات