عندما حل المساء، أنهى شهريار ديوانه كي يعود سريعًا إلى شهرزاد، يسمع أعجب وأغرب الحكايات ولما وصل قالت له شهرزاد: “سأحكي لك اليوم يا مولاي، قصة البركة والسمكات الملونة كما وعدتك”.
فقال شهريار: “كلي آذان صاغية”، بدأت شهرزاد تسترجع ما مضى وفات.
وقالت: “بلغنى أيها الملك السعيد، أنه كان هناك صياد طاعنًا في السن، فقير الحال، وله زوجة وثلاثة أولاد، وكان من عادته أن يرمى شبكته كل يوم أربع مرات لا غير”.
البركة والسمكات الملونة.. صياد دون أسماك
وفي يوم من الأيام خرج الصياد إلى شاطئ البحر وقت الظهر، وطرح شبكته وصبر حتى استقرت في الماء.
ثم حاول إخراجها فوجدها ثقيلة، فحاول مرارًا وتكرارًا حتى تمكن منها.
فوجد فيها حمارًا ميتًا، فلما رأى ذلك حزن وقال: “لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم”.
ثم خلصه من الشبكة وطرحها مرة أخرى، وصبر عليها حتى استقرت.
ثم جذبها فثقلت فظن أنه سمك، فربط الشبكة وخلصها فوجد فيها زيرًا كبيرًا، ممتليء برمل وطين.
فلما رأى ذلك تأسف، وعاد إلى البحر ثالث مرة، ورمى الشبكة وصبر عليها حتى أستقرت، وجذبها فوجد فيها وقوارير.
هنا رفع الصياد رأسه إلى السماء وقال: “اللهم أنك تعلم أني لم أرم شبكتي غير أربع مرات، وقد رميتها ثلاثًا”.
ثم أنه سمى الله ورمى الشبكة في البحر، وصبر إلى أن أستقرت وجذبها، فوجد فيها مصباحًا من نحاس أصفر اللون، عليه طبع خاتم سيدنا سليمان.
ما لم يكن في الحسبان
فلما رآه الصياد فرح وقال: “هذا أبيعه في سوق النحاس، فإنه يساوى عشرة دنانير ذهبًا”.
ثم أنه حركه فوجده ثقيلًا فقال: “لا بد أن أفتحه وأنظر ما فيه”، فخرج منه دخان صعد إلى السماء.
تعجب الصياد غاية العجب، فاجتمع الدخان وصار عفريتًا، رأسه في السحاب ورجلاه في التراب.
فلما رأه الصياد ارتعدت أوصاله وتضاربت أسنانه، فقال العفريت: “لا إله إلا الله سليمان نبي الله، لا تقتلني فإني لا عدت أخالف لك قولًا، وأعصي لك أمرًا”.

فقال له الصياد: “أيها المارد أتقول سليمان نبي الله، وسليمان مات من ألف وثمانمائة سنة، ونحن في آخر الزمان”.
فلما سمع المارد كلام الصياد قال: “لا إله إلا الله أبشر يا صياد”، فقال الصياد: “بماذا تبشرني؟”
ضحك العفريت ومشى أمام الصياد، وقال: “أيها الصياد اتبعني”.
فمشى الصياد وراءه إلى أن خرجا من ظاهر المدينة، وصعدا الجبل ثم نزلا إلى برية متسعة في وسطها بركة ماء.
فوقف العفريت وأمر الصياد أن يطرح الشبكة ويصطاد.
فنظر الصياد إلى البركة، وإذا بها سمك ملون، أبيض وأحمر وأزرق وأصفر.
فتعجب الصياد من ذلك وطرح شبكته وجذبها فوجد فيها أربع سمكات، كل سمكة بلون.
فقال له العفريت ادخل بها إلى السلطان وقدمها إليه، فإنه يعطيك ما يغنيك، ولا تصطد منها كل يوم إلا مرة واحدة، واستودعتك الله.
ثم دق الأرض بقدميه فانشقت وابتلعته، ومضى الصياد إلى المدينة متعجبًا مما جرى له مع هذا العفريت.
أخذ الصياد السمك، ودخل به منزله وأتى بطبق ثم ملأه ماء ووضع فيه السمك، ثم قصد به قصر الملك كما أمره العفريت.
البركة والسمكات الملونة وعجائب في قصر السلطان
ولما طلع الصياد إلى الملك وقدم له السمك، تعجب الملك غاية العجب من ذلك السمك؛ لأنه لم ير في حياته مثله صفة ولا شكلًا، فقال: “ألقوا هذا السمك للطباخة”.
وكانت هذه الطباخة التي أهداها له ملك الروم منذ ثلاثة أيام، ولم يجرب طبخها قط.
ثم أعطى الملك للصياد أربعمائة دينار، فأخذها وتوجه إلى منزله وهو فرحان مسرور، ثم اشترى لأطفاله كل ما يحتاجون إليه.

نفذت الجارية أمر الملك، فأخذت السمك ونظفته ووضعته في الطاجن، وتركته حتى استوى وجهه الأول، ثم قلبته على الوجه الثاني.
وإذا بحائط المطبخ قد انشق، وخرجت منه صبية رشيقة وفي يديها عود خيزران، فغرزته في الطاجن وقالت: “يا سمك يا سمك هل أنت على العهد القديم مقيم”.
فلما رأت الجارية ذلك فقدت الوعي، فأعادت الصبية القول ثانيًا وثالثًا فرفع السمك رأسه في الطاجن وقال: “نعم، نعم” ثم قال: “إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا وإن هجرت فإنا قد تكافينا”.
فعند ذلك قلبت الصبية الطاجن وخرجت من الموضع الذي دخلت منه، والتحم حائط المطبخ.
ثم أفاقت الجارية، فرأت الأربع سمكات محروقة مثل الفحم الأسود.
وبينما تعاتب نفسها، إذا بالوزير واقف على رأسها، فقال لها: “أحضري السمك للسلطان”، فبكت الجارية وأعلمت الوزير بما حدث.
أرسل الوزير إلى الصياد فامتثل بين يديه، فقال الوزير: “أيها الصياد لا بد أن تجلب لنا أربع سمكات مثل التي جئت بها أولًا”.
فخرج الصياد إلى البركة وطرح شبكته، ثم جذبها وإذا بأربع سمكات، فأخذها وجاء بها إلى الوزير.
فدخل الوزير إلى الجارية وقال لها: “اقلي السمك أمامي، حتى أرى هذه القضية”.
فقامت الجارية ووضعت السمك في الطاجن على النار، فما استقر إلا قليلًا وإذا بالحائط قد انشق، والصبية قد ظهرت وفي يديها عود الخيزران.
فغرزته في الطاجن وقالت: “يا سمك هل أنت على العهد القديم مقيم”، فرفعت السمكات رؤوسها وأنشدت هذا البيت: “إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا وإن هجرت قد تكافينا”.
دعني أرى بنفسي
لما تكلم السمك قلبت الصبية الطاجن بعود الخيزران، وخرجت من الموضع الذي جاءت منه والتحم الحائط.
فعند ذلك قام الوزير وقال: “هذا أمر لا يمكن إخفاؤه عن الملك”.
فتقدم إلى الملك وأخبره بما جرى أمامه فقال الملك: “لا بد أن أنظر بعيني، فأرسل إلى الصياد وأمره أن يأتي بأربع سمكات، وأمهله ثلاثة أيام”.
فذهب الصياد إلى البركة وأتاه بالسمك في الحال، فأمر الملك أن يعطوه أربعمائة دينار.

ثم التفت الملك إلى الوزير وقال له: “أطهي أنت السمك أمامى”.
فقال الوزير: “سمعًا وطاعة”، فأحضر الطاجن ورمى فيه السمك بعد أن نظفه، ثم قلبه.
وإذا بالحائط قد انشق، وخرج منه عبد أسود كأنه ثور من الثيران، وفي يده عود خيزران وقال: “يا سمك يا سمك هل أنت على العهد القديم مقيم؟”.
فرفع السمك رأسه من الطاجن وقال: “نعم”، وأنشد هذا البيت: “إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا وإن هجرت فإنا قد تكافينا”.
وأقبل العبد على الطاجن وقلبه بالعود إلى أن صار فحمًا أسود.
ثم ذهب من حيث أتى، فلما غاب العبد عن أعينهم قال الملك: “هذا أمر لا يمكن السكوت عنه”.
لا بد أن هذا السمك له شأن غريب”، فأمر بإحضار الصياد.
فلما حضر قال له: “من أين أتيت بهذا السمك؟”.
فقال الصياد: “من بركة بين أربع جبال وراء هذا الجبل الذى بظاهر مدينتك”.
فالتفت الملك إلى الصياد وقال له: “مسيرة كم يوم”، قال له يا مولانا السلطان: “مسيرة نصف ساعة”.
رحلة للبركة والسمكات الملونة العجيبة
فتعجب السلطان وأمر بخروج العسكر مع الصياد، وساروا إلى أن صعدوا الجبل ثم نزلوا منه إلى برية متسعة، لم يروها طيلة عمرها.
والسلطان وجميع العسكر يتعجبون من تلك البرية التى نظروها بين أربع جبال، والسمك فيها على أربعة ألوان أبيض وأحمر وأصفر وأزرق.
فوقف الملك متعجبًا وقال للعسكر ولمن حضر: “هل أحد منكم رأى هذه البركة في هذا المكان”.
فقالوا جميعهم: “لا”، فقال الملك: “والله لا أدخل مدينتي، ولا أجلس على كرسي العرش حتى أعرف حقيقة البركة والسمكات الملونة“.

وأمر الناس بالنزول حول هذه الجبال فنزلوا، ثم دعا بالوزير وكان وزيرًا عاقلًا عالمًا بالأمور.
فلما حضر بين يديه قال له: “لقد خطر ببالي أن أنفرد بنفسي في هذه الليلة، وأبحث عن خبر البركة والسمكات الملونة، فاجلس على باب خيمتى، وقل للأمراء والوزراء والحجاب أن السلطان أمرني ألا أدخل أحدًا، ولا تعلم أحد بقصدي”، فلم يقدر الوزير على مخالفته.
قصر أسود اللون
ثم انسل الملك من بينهم ومشى بقية ليله إلى الصباح، ولم يزل سائرًا حتى اشتد عليه الحر.
فاستراح ثم مشى بقية يومه وليلته الثانية إلى الصباح، فظهر له مبنى أسود من بعيد.
ففرح وقال: “لعلي أجد من يخبرني بقصة البركة والسمكات الملونة“.
ولما اقترب من السواد، وجده قصرًا مبنيًا بالحجارة مصفحًا بالحديد، وأحد شقي بابه مفتوح والآخر مغلق.
ففرح ودق على الباب دقًا لطيفًا، فلم يسمع جوابًا، فدق ثانيًا وثالثًا فلم يجد شيئًا، فدق رابعًا دقًا مزعجًا فلم يجبه أحد.
فقال لا بد أنه خال، فشجع نفسه ودخل من باب القصر ثم نادى وقال: “يا أهل القصر إنى رجل غريب وعابر سبيل، هل عندكم شيء من الزاد؟” وأعاد القول مرارًا وتكرارًا فلم يسمع جوابًا.

فتابع مسيره وكان القصر مفروش، وفي وسطه بحيرة عليها أربع سباع من الذهب، تلقي الماء من أفواهها كالدر والجواهر.
فتأسف الملك؛ لأنه لم يجد أحدًا يسأله عن البركة والسمكات الملونة، ثم جلس بين الأبواب يتفكر فإذا بأنين حزين يقطع خلوته.
وسمع أنينًا
فلما سمع السلطان ذلك الأنين نهض قائمًا وقصد جهته، فوجد ستارًا منسدلًا على باب المجلس، فرفعه ودخل، فرأى شابًا جالسًا على سرير مرتفع عن الأرض مقدار ذراع.
ففرح به الملك وسلم عليه، والصبي جالس وعليه ثوب من حرير مطرز بالذهب.
فرد السلام على الملك وقال: “يا سيدى اعذرنى على عدم القيام”.
فقال الملك: “أيها الشاب أخبرنى عن هذه البركة، وعن سمكها الملون، وعن هذا القصر، وسبب وحدتك فيه، وما سبب بكائك؟”.
فلما سمع الشاب هذا الكلام نزلت دموعه على خده وبكى بكاءً شديدًا.
فتعجب الملك وقال: “ما يبكيك أيها الشاب؟”.
فقال الشاب: “كيف لا أبكى وهذه حالتي”، ومد يده إلى رجليه فإذا نصف جسده إلى قدميه حجر.
ثم قال: “اعلم أيها الملك أن لهذا أمرًا عجيبًا، لو كتب بالإبر على آفاق البصر لكان عبرة لمن اعتبر”.
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

التعليقات