
كثير منا قد ورد إلى سمعه حكايات عن السيرة الهلالية حيث كانت حديثًا يُروى على لسان الجدات، يذكرن بها مآثر بطل امتاز بصفات حميدة جعلته يزيد على كثير من الرجال في صفات الرجولة، لدرجة أن البعض اعتبره شخصية خيالية يرونه بطل خارق له قوة جبارة، فسيفه لا يعود لغمده قبل قطع عشرات الرؤوس ولا يقف أحد أمامه في معركة إلا ولحقته الهزيمة، ولعل السبب في هذه الروايات والقصص المتداولة يرجع لقلة ما ورد عنه في أمهات الكتب، فما حكاية الشاعر والفارس “أبو زيد الهلالي”.
أبو زيد الهلالي.. أحد أبطال الحكايات
عُرف بطل أبطال السير العربية القديم بـ “أبو زيد الهلالي” ولكن هذا لم يكن اسمه، بل لقب حصل عليه جراء تميزه عن أقرانه وأتصافه بأوصاف الرجال الحميدة فلقب بـ “أبو زيد” تعبيرًا عن تفوقه على الجميع في كل شيء، أما الهلالي فهو نسب قبيلة بني هلال التي كان ينتمي إليها.
اختلف المؤرخون حوله في العديد من التفاصيل ولكن ما اتفقوا عليه جميعًا هو أن “أبو زيد الهلالي”شخصية حقيقية وليس أسطورة، واسمه الحقيقي هو “سلامة بن رزق بن نائل بن بني شعيثة بن الهزم بن عامر بن معد بن عدنان الهلالي العامري الهوزاني”، وكان أبو زيد ينتمي لواحدة من أشرف وأعرق القبائل العربية ووالده زعيمًا في قومه.
عاش أبو زيد الهلالي في القرن الخامس الهجري، أما بالنسبة لمكان ميلاده فلم يرد بشكل صريح في كتب التاريخ، ولكن توصل المؤرخون إلى أنه ولد في “نجد” -أحد أراضي شبه الجزيرة العربية- والسبب في ذلك أن القبيلة التي ينتمي إليها الهلالي “قبيلة هلال” انتقلوا إلى “نجد” بعد أن هاجروا من ديارهم في بلاد السرو.
نشأ غريبًا دون أن يعرف حقيقة أهله
ورد في أحد الروايات أن الأمير “رزق الهلالي” الذي اشتهر بالشجاعة والدهاء وكان زعيمًا وقائدًا لفرسان قبيلته، لما تقدم به العمر ولم يُرزق بولد كان يسير هائمًا وشاردًا في الصحراء يدعو الله أن يهب له ولدًا يرث اسمه، ولما تزوج الأمير رزق بالأميرة “خضرة الشريفة” وضعت طفل أسود اللون فأبى الأمير رزق الاعتراف به وتكتم على خبر مولده.
ولكن تناقلت الأقاويل ووصل النبأ إلى قبيلة بني هلال، فسألوا رزقًا عن أمر هذا الصبي فأنكر الأمير رزق قرابته من الطفل، هنا طالبه رجال القبيلة أن يُطلق زوجته ويردها إلى والدها شريف مكة ويرسل معها أحد اتباعه “الشيخ منيع” ليرجعها إلى أهلها، واضطر الأمير رزق أن ينصاع لمطالبهم.
رحلت خضرة الشريفة بولدها وبرفقة الشيخ منيع للصحراء ولكنها لم تعد به إلى أهلها خشية من والدها وأشقائها أن يقتلوا الطفل، وطلبت من الشيخ منيع أن يعود إلى قبيلته وأثناء حوارهما مر الأمير “الفضل بن بيسم” أمير بني الزحلان، الذي سمع القصة بأكملها فعرض على خضرة أن تنزل في ضيافته فقبلت بذلك خوفًا على طفلها من أخواله في مكة وأعمامه في بني هلال، وتبنى الفضل الطفل واعتبره واحدًا من ابناؤه وأطلق عليه اسم “الأمير بركات”.
قويًا وطائشًا.. أبو زيد في بلاط الأمير الفضل
التحق أبو زيد بمدرسة الأمراء شأنه شأن بقية أقرانه وأبدى تفوقًا في الفروسية وفنون القتال، ولكن أبو زيد كان طائشًا فقد ورد في أحد الروايات أنه ضرب معلمه ضربًا مبرحًا توفي على إثره، فأصبح الجميع ينبذه ولا يتعاملون معه وبات يتلقى تعليمه في المنزل منفردًا.
دوام الحال من المحال.. الرحيل عن “نجد”
عندما بلغ الهلالي أشده عرف قبيلته بني هلال وعاد إليها ليعيش في “نجد” البلد التي يحل بها قومه، والتي تعتبر أحد أخصب البلاد العربية وأكثرها سهولًا ووديانًا، صاحبة الهواء العليل والماء العذب والتي تغنى بها الشعراء في قصائدها وكتبوا بها ألوان القصيد الحسان، ولكن لم تدم البلاد على رونقها فقد بارت الأرض وعمت المجاعة البلاد.
قصد بنو هلال الأمير حسن بن سرحان وعرضوا عليه ما كان من نجد من بوار، وكان برفقته “أبو زيد” فارس الفرسان والأمير “دياب بن غانم” والقاضي “بدير بن فايد”، فتناقشوا جميعًا في هذه القضية واستقر رأيهم على الرحيل من هذه البلاد، وأن يذهب أبو زيد إلى بلاد المغرب ليرى الأحوال ويأتيهم بحقيقة الأخبار.
شد الترحال.. رحلة البحث عن وطن
تجهز أبو زيد للسفر واصطحب معه مرعي ويحي ويونس وهم من أشراف القبيلة ولهم من الحكمة والذكاء ما يميزهم عن غيرهم، وكان الجميع يدعون لهم بالنجاح ووقفوا لوداعهم فنظم الهلالي لهم بعض القصيد فقال:
يقول أبو زيد الهلالي سلامة … ونيران قلبي زايدات اللهايب
وعيني من كُثر البكا قل شوفها … جرى دمعها فوق خدي سكايب
واسمع كلامي يا أمير بنو علي … وكن لقولي فاهم اثم حاسب
غدونا بعون الله جل جلاله … نرود ديار الغرب يم المغارب
وفي صحبتي مرعي ويحيى ويونس … من أجلهم ذا النجع باكي وناحب
وعليا عيوني يا عرب في حيكم … وصبروا وريا طويلات الذوايب
يابو علي بالك عليهم من العدا … إذا هاجت الفرسان بين المضارب
ما بين الطبول وألوان القصيد.. بلاد حزوة والنير والعمق
بعد رحيل أبو زيد عن الوطن استمر المسير حتى أشرف على بلاد حزوة والنير، وهي بلاد كثيرة الخيرات واسعة الأراضي لها حاكم عظيم الشان اسمه “الدبيسي بن مزيد”، فقصده أبو زيد وأخد يمدحه ويعلمه عن أحوال نجد وما آلت إليه من تدهور وذلك في ألوان مختلفة من القصيد، فلما سمع الدبيسي ذلك استقبلهم واكرمهم وأنزلهم في أحسن الخيام أقاموا فيها 10 أيام، في هذه الفترة تعرف أبو زيد أحوال البلاد ثم ودع الدبيسي ورحل قاصدًا بلاد المغارب.
وصل أبو زيد إلى بلاد العمق وهي بلاد الأمير “غامس” ودخلها في الليل الدامس، عندما سمع أصوات طبول تدل على الفرح والسرور نظم شعره وأقاموا بها ليلتهم.
عبد حبشي.. حيلة أبو زيد الهلالي للدخول إلى تونس
قطع الفرسان طريقًا طويلًا في الرحلة ولم يكن معهم زادًا ولا مطية للسفر، فاتفقوا على بيع أبو زيد في الطريق كعبد حبشي حيث يتوفر بثمنه نفقات رحلتهم على أن يلحق بهم بعد أن يهرب، ولكن من اشتراه وثق به فرفض أبو زيد أن يخون الأمانة، وظل يعاني من العبودية والأسر حتى كشف مالكه أمره وأترك سراحه.
لما لحق أبو زيد رفاقه ودخلوا بلاد تونس، توجس ملكها “الزناتي خليفة” لمجيئهم؛ لأنه قد حلم أن سحابة سوداء تأتى من الشرق لتُمطر بلاده شوكًا، وخشى أن يكون قدومهم تحقيقًا لرؤيته فأمر بالقبض عليهم ووضعهم بالسجن، ولكن أبو زيد استغل سواد لونه وأدعي أنه عبد يعمل بالطهي ليفلت من الأسر، ورغم مهارته في إشعال النار وإعداد الطعام افتضح أمره.
فقد شك به الملك وأخذ يراقبه حتى تبين له أنه فارس خبير، فأمر جنوده بقتله ولولا رشوة أبو زيد للحراس لما استطاع أن ينجو من الموت ويغادر تونس ليستعد للعودة إليها من جديد، وطوال 14 عام وقف بنو هلال على أبواب تونس يقاتلون بضراوة في سبيل الدخول إليها.
مقتل بطل أبطال السير الشعبية
أراد الأمير دياب بن غانم الهلالي التخلص من أبو زيد الهلالي ولكنه كان واثقًا أنه لو دخل معه في معركة سينتهي به الحال مهزومًا، لذلك قرر أن يقتله غدرًا فرماه من الوراء برمح اخترق جسده أثناء غزو الهلال لأرض تونس بحثًا عن الماء والمرعى.
التعليقات