عالجه ففكر في قتله.. الملك يونان والحكيم رويان من حكايات ألف ليلة وليلة
عالجه ففكر في قتله.. الملك يونان والحكيم رويان من حكايات ألف ليلة وليلة

وعدت شهرزاد الملك شهريار بحكاية أخرى أغرب من الخيال.

وفي المساء لما عاد الملك من الديوان، حدّث شهرزاد قائلًا: “ما حكاية اليوم لم تخبريني أي شيء عنها؟”.

فأجابته شهرزاد: “سأقص عليك يا مولاي، حكاية الحكيم رويان الذي عالج الملك فأمر بقتله”.

فقال شهريار: “وهل من المعقول أن يقتل الرجل طبيبه؟”.

قالت شهرزاد: “كل شيء ممكن في حكايتنا”.

ثم اعتدلت شهرزاد في مجلسها، وبدأت قولها.

كان يا ما كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، في مدينة الفرس وأرض الرومان، ملك يقال له الملك يونان، وكان ذا مال وجنود وبأس وأعوان، من سائر الأجناس والألوان.

لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، فقد كان الملك مصاب بداء البرص في كامل جسده، واحتار الأطباء والحكماء في أمره، ولم ينفعه أي دواء.

الحكيم رويان

وفي أحد الأيام دخل إلى المدينة، حكيم كبير طاعن في السن، يقال له الحكيم رويان.

وكان ملمًا بالكتب اليونانية والفارسية والعربية والسريانية، وعلم الطب والنجوم، كما كان عالمًا بخواص النباتات والحشائش، والأعشاب الضارة والنافعة.

الحكيم رويان

فلما سمع بمرض الملك وما جرى له، بات مشغولًا يتفكر في أمره.

ومع إشراقة الصباح، ارتدى أفخر ثيابه ودخل على الملك يونان وقال: “بلغني أيها الملك ما اعتراك في جسدك، وأن كثيرًا من الأطباء لم يعرفوا الحيلة في زواله، وها أنا أداويك ولا أسقيك دواء”.

فلما سمع الملك يونان كلامه تعجب غاية العجب وقال: “كيف تفعل؟، فو الله لو برأتنى أغنيك وأنعم عليك ما تتمناه”.

قال له الحكيم: “سمعًا وطاعة”.

ثم نزل من عند الملك، واشترى له بيتًا وضع فيه كتبه وأدويته وعقاقيره، واستخرج الأدوية والعقاقير وجعل منها صولجانًا، وجوفه وصنع له كرة.

نقيا مثل الفضة البيضاء

فلما فرغ منها ذهب إلى الملك في اليوم التالي ودخل عليه، وكان معه بعض الأمراء والوزراء وأرباب الدولة.

فناوله الحكيم رويان الصولجان وقال له: “خذ هذا الصولجان واقبض عليه مثل هذه القبضة، وامش في الميدان، واضرب به الكرة بقوتك حتى يعرق كفك وجسدك، فينفذ الدواء من كفك فيسري في سائر جسدك، فإذا عرقت وأثر الدواء فيك، فارجع إلى قصرك وادخل الحمام واغتسل، ثم نم فقد برئت”.

نفذ الملك يونان كلام الحكيم، وفي صباح اليوم التالي، وجد أن جسده صار نقيًا مثل الفضة البيضاء.

ففرح بذلك غاية الفرح واتسع صدره وانشرح، ثم دخل الديوان وطلب الحكيم رويان للحضور.

فلما امتثل بين يديه قام إليه مسرعًا وأجلسه بجانبه، وإذا بموائد الطعام قد مدت بكل ما تشتهيه النفس.

الحكيم رويان

ولما أقبل الليل أعطى الحكيم رويان ألفي دينار غير الخلع والهدايا، وأركبه جواده وانصرف إلى داره.

والملك يونان يتعجب من صنعه ويقول: “هذا داواني من ظاهر جسدي ولم يدهنني بدهان أو يعطيني دواء، فو الله ما هذه إلا حكمة بالغة، فيجب علي لهذا الرجل الإنعام والإكرام، وأن أتخذه جليسًا وأنيسًا مدى الزمان”.

وبات الملك يونان مسرورًا فرحًا بصحة جسمه وخلاصه من مرضه.

لكن كان للملك وزير لئيم حسود، عندما رأى أن الملك قرب الحكيم رويان وأعطاه هذه الهدايا، حسده وأضمر له شرًا.

حقد أذهب كل الخير

وذات ليلة تقدم الوزير إلى الملك يونان وقال له: “أيها الملك الجليل، قد قالت القدماء من لم ينظر في العواقب فما الدهر له بصاحب، وقد رأيت الملك على غير صواب، حيث أنعم على عدوه وعلى من يطلب زوال ملكه، وأحسن إليه وأكرمه غاية الإكرام، وأنا أخشى على الملك من ذلك”.

الحكيم رويان
فانزعج الملك وتغير لونه وقال له: “من الذي تزعم أنه عدوي وأحسنت إليه؟”.

فقال له: “ما أشير إلا للحكيم رويان“.

فقال له الملك: “إن هذا صديقي وهو أعز الناس عندي؛ لأنه داواني من مرضي الذي عجز فيه الأطباء، وما أظن أنك تقول ذلك إلا حسدًا”.

فلما سمع الوزير كلام الملك يونان قال له: “أيها الملك العظيم، إنما أفعل ذلك شفقة عليك، فلعل هذا الحكيم أتى جاسوسًا يسعى في هلاكك، وإذا كان أبرأك بشيء أمسكته بيدك، فإنه يستطيع أن يُهلكك بشيء تشمه مثلًا”.

فقال الملك يونان لوزيره: “أحقًا ما تقول، إذن ما العمل؟”.

قال الوزير: “أرسل إليه في هذا الوقت واطلبه، فإن حضر فاضرب عنقه، فتكفي شره، وتستريح منه، واغدر به قبل أن يغدر بك”.

فقال الملك يونان: “صدقت أيها الوزير”، ثم أرسل إلى الحكيم، فحضر فرحان لا يعلم ما قدره الرحمن.

مكر يؤذي صاحبه

فقال له الملك: “أتعلم لماذا أحضرتك”، فقال الحكيم: “لا يعلم الغيب إلا الله تعالى”، فقال له الملك: “أحضرتك لأقتلك”.

فتعجب الحكيم رويان من تلك المقالة وقال: “أيها الملك لماذا تقتلني؟ وأى ذنب بدا مني”.

قال له الملك: “قد قيل لي إنك جاسوس وقد أتيت لتقتلني، وها أنا الآن أقتلك قبل أن تقتلني”.

ثم صاح الملك على السياف وقال له: “اضرب رقبة هذا الغدار وأرحنا من شره”.

فتوسل إليه الحكيم، لكن الملك كان قد عزم أمره وقال له: “إنى لا آمن إلا أن أقتلك، فإنك أبرأتني بشيء أمسكته بيدي، فلا آمن أن تقتلني بشيء أشمه أو غير ذلك”.

فقال الحكيم رويان: “أيها الملك أهذا جزائى منك، تقابل الخير بالشر”.

ولما تحقق الحكيم أن الملك قاتله لا محالة، بكى وتأسف على ما صنعه من جميل في غير أهله.

بعد ذلك تقدم السياف وأشهر سيفه والحكيم يبكي ويقول للملك: “أبقنى يبقيك الله ولا تقتلنى يقتلك الله”.

وكان عند الملك بعض وزراؤه لما رأوا هذه الواقعة، قالوا: “أيها الملك هب لنا دم هذا الحكيم؛ لأننا ما رأيناه يفعل معك ذنبًا، فقد أبرأك من مرضك الذي أعيا الأطباء والحكماء”.

الحكيم رويان.. ولم يرأف بي

لكن لم يتأثر الملك بكلامهم، فقال له الحكيم: “أيها الملك إن كان ولا بد من قتلي، فأمهلني حتى أنزل إلى داري، فأوصي أهلي وجيراني أن يدفنوني، وأهب كتب الطب، وعندي كتاب خاص، أهبه لك هدية تدخره في خزانتك”.

فقال الملك: “وما هذا الكتاب؟” قال الحكيم: “أقل ما فيه من الأسرار أنك إذا قطعت رأسي وفتحته وعددت ثلاث ورقات، ثم قرأت ثلاث أسطر من الصحيفة التي على يسارك، فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألتها عنه”.

فتعجب الملك واهتز من الطرب، وأرسل الحكيم إلى داره حتى يقضي أشغاله.

وفي اليوم التالي عاد الحكيم رويان إلى الديوان، وأتى الأمراء والوزراء وأرباب الدولة جميعًا، وصار الديوان كزهر البستان، ووقف الحكيم أمام الملك ومعه كتاب عتيق ومكحلة وبذور.

ثم جلس الحكيم وقال: “ائتونى بطبق”، فأتوه به، فقال للملك: “بعد أن تقطع رأسي اجعلها في ذلك الطبق، وأمر بكبسها على البذور، فإذا فعلت ذلك فإن دمها ينقطع، ثم افتح الكتاب واقرأ ما فيه”.

الحكيم رويان

حاول الملك فتح الكتاب فوجده ملتصق، فوضع إصبعه في فمه وحاول مرة أخرى.

ففتح أول ورقة والثانية والثالثة والورق لا ينفتح إلا بجهد شديد.

حتى فتح الملك ست ورقات ونظر فيها، فلم يجد كتابة.

فقال للحكيم: “أيها الحكيم ما فيه شيء مكتوب”، فقال الحكيم: “اقلب الورق أكثر”.

فصار الملك يقلب الصفحات أكثر، حتى سرى سم في جسده، فقد كان الكتاب مسمومًا.

فصاح الملك قائلًا: “سرى في السم” ثم سقط ميتًا.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

التعليقات