مع إشراقة الصباح، ذهب الملك شهريار إلى ديوانه ليحكم بين الناس، ولما انفض المجلس، عاد إلى شهرزاد لتكمل له حكاية الملك بدر باسم والملكة جوهرة ابنة الملك السمندل.
فبدأت شهرزاد قولها: “بلغني أيها الملك السعيد أن الملك بدر باسم، بعد أن حولته الملكة جوهرة إلى طير مسحور، طلبت من الجارية وضعه في الجزيرة المعطشة”.
“فاشفقت عليه الجارية ووضعته في جزيرة خضراء نضرة”.
“فصار يأكل من الثمار ويشرب من الأنهار، ولم يزل كذلك مدة أيام وليال وهو في صورة طائر لا يعرف لأين يتوجه وكيف يطير”.
طائر في قصر الملك
وذات يوم أتى صياد، فرأى الملك بدر باسم وهو في صورة طائر أبيض يسلب الناظر عقله.
فأصطاده وذهب به إلى الملك، الذي أعجب بجماله ووضعه في قفص مليح، وأضاف له بعض الطعام والشراب.
لكن الطائر لم يأكل شيئًا، فأتى به الخادم ووضعه بين يدي الملك، وكان وقت غداؤه.
فلما نظر الطائر إلى اللحم والطعام والحلويات والفواكه، أكل من الطعام.
فتعجب الملك وأمر أن تحضر زوجته لتشاهد هذا الطائر الغريب، أحد أعاجيب الزمان.
وبالفعل أتت الزوجة، لكنها لما رأت الطائر وتحققت منه، غطت وجهها وعادت أدراجها.
فقام الملك ليسألها عن سبب تصرفها هذا، فقالت: “أيها الملك إن هذا الطير ليس بطائر، وإنما هو رجل مثلك”.
فتعجب الملك وقال: “بالتأكيد تمزحين، كيف لا يكون طائرا؟”.
فقالت له: “والله ما مزحت معك، وإن هذا الطير هو الملك بدر باسم ابن الملك شهرمان صاحب بلاد العجم، وأمه الملكة جلنار البحرية، وإنه الملكة جوهرة بنت الملك السمندل سحرته”، ثم حدثت زوجها بما جرى له من أوله إلى آخره.
وكانت الملك زوجة أسحر أهل زمانها، فقال لها الملك: “عليك أن تحليه من السحر، ولا تتركيه معذبًا”.
فأخذت الزوجة في يدها طاسة ماء، وتكلمت عليها بكلام لا يفهم، وقالت له: “أخرج من الصورة التي أنت فيها، وارجع إلى الصورة التي خلقك الله عليها”.
فلم تتم كلامها، حتى انتفض الطائر ورجع إلى صورته، فرآه الملك شابًا حسنًا.
لما رأى الملك بدر باسم قد عاد لطبيعته، قال له: “حدثني بحديثك من أوله إلى آخره”.
فحدثه ولم يكتم شيئا، فأشفق عليه الملك وقدم له المساعدة، وجهز له مركبًا وقوم يساعدونه ليعود لمملكته.

رحلة مشؤومة
ركب بدر باسم المركب وودع الملك وسار مع جماعته في البحر، ولم يزالوا سائرين مدة عشرة أيام متوالية.
ولما كان اليوم الحادي عشر، هاج البحر هيجانًا شديدًا، وصار المركب يرتفع وينخفض ولم يقدر البحارة على تولي زمامه.
واستمروا على تلك الحالة اصطدم المركب بصخرة، فانكسر وغرق جميع ما من عليه، إلا الملك بدر باسم فإنه ركب على لوح من الألواح.
ظل اللوح يجري بالملك بدر باسم في البحر مدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع وصل به اللوح على ساحل البحر.
فوجد هنالك مدينة شديدة البياض مثل الحمامة، عالية الأركان مليحة البنيان، يضرب في أسوارها البحر.
ففرح فرحًا شديدًا، ثم نزل اللوح وأراد أن يصعد إلى المدينة، لكن أتى إليه عدد من البغال والحمير والخيول، وصاروا يضربونه ويمنعونه من الخروج من البحر.
جزيرة عجيبة
حاول بدر باسم أن يسبح خلف المدينة حتى خرج إلى البر، ولحسن حظه لم يجد هناك أحدًا.
فخرج من البحر واستمر في المسير إلى أن قابل شيخًا بقالًا، فسلم عليه وقال له: “يا غلام من أين أتيت، ومن الذي أوصلك إلى هذه المدينة؟”، فحدثه بحديثه من أوله إلى آخره.

فقال الشيخ: “يا ولدي بالطبع أنت تتعجب من هذه المدينة، حيث إنها خالية من الناس، فاذهب إلى دكاني واجلس فيه، فسبحان من سلمك من هذه الشيطانة”.
فخاف الملك بدر باسم خوفًا شديدًا ونظر إلى الشيخ وقال له: “يا سيدي ما سبب هذا الكلام، فقد أخفتني”.
قال الشيخ: “يا ولدي اعلم أن هذه المدينة مدينة السحرة، وبها ملكة تدعى لاب، وهي ساحرة شيطانة، والحيوانات التي رأيتها من الخيل والبغال والحمير، من بني آدم لكنهم غرباء فسحرتهم؛ لأن كل من يدخل هذه المدينة وهو شاب مثلك، تأخذه هذه الساحرة، وتبقيه أربعين يومًا وبعد الأربعين، تسحره فيصير بغلًا أو فرسًا أو حمارًا، وأنك لما أردت الخروج من البحر، خافوا أن تسحرك مثلهم، فقالوا لك بالإشارة: لا تخرج لئلا تراك الساحرة، فربما تفعل بك ما عملت فيهم”.
ارتعد بدر باسم من كلام الشيخ وبدأ يرتجف، وما هي إلا لحظات حتى أقبلت الملكة في موكب عظيم.
وما أن وصلت إلى دكان الشيخ فرأت الملك بدر باسم وهو جالس في الدكان كأنه البدر في تمامه.
سألت الساحرة الشيخ عنه، فأخبرها أنه ابن أخاه، فقالت له: “دعه يكون الليلة عندي لأتحدث معه”.
فقال لها: “أتأخذينه مني ولا تسحرينه؟” قالت: “نعم” قال لها: “احلفي” فحلفت أنها لا تؤذيه ولا تسحره.
ثم أمرت أن يقدموا له فرسًا مسرجًا ملجمًا بلجام من ذهب، ووهبت للشيخ ألف دينار وذهبت به.
وكلما رأه الناس ونظروا إلى حسنه وجماله يقولون: “والله إن هذا الشاب لا يستحق أن تسحره هذه الملعونة”.
محبوس في قفص
لما وصلوا إلى باب القصر انصرف الجميع ولم يبق سوى الملكة والجوارى.
فدخلوا إلى القصر الذي لم ير بدر باسم مثله قط، فكانت حوائطه مبنية من الذهب، وفي وسطه بركة عظيمة غزيرة الماء، وفيه بستان كبير يضم طيور شتى، تتناغي بسائر اللغات والأصوات المفرحة والمحزنة.
جلست الملكة بالقرب من شباك يشرف على البستان، ثم أمرت الجواري بإحضار مائدة تشمل سائر الأطعمة.
فأكلا حتى اكتفيا وغسلا أيديهما، ثم إنها أمرت بإحضار مغنيات فحضرن عشر جوار وبدأن يغنين بسائر الألحان، وتكرر هذا الحال مدة أربعين يومًا.
وذات ليلة طلب بدر باسم من الملكة أن يذهب إلى دكان عمه البقال.
فوافقت بشرط أن يعود إليها مرة أخرى، فوعدها ثم ذهب.
وعندما وصل للدكان استقبله الشيخ ورحب به، وأخذ يحذره من تلك الشيطانة وألاعيبها.
وأعلمه أن جميع الطيور التي رأها، كانت لشبان غرباء عشقتهم وسحرتهم طيورًا.

ثم قص عليه حكايته فقال: “إني ساحر أيضًا، ولكني لا أستعمل السحر إلا عند الضرورة، وكثير ما أبطل سحر هذه الملعونة، وأخلص الناس منها ولا أبالي بها؛ لأنها ليس لها علي سبيل، بل هي تخاف مني خوفًا شديدًا، فإذا كان الغد تعال عندي واعلمني بما تفعله، فإنها هذه الليلة تسعى في هلاكك، وسأقول لك ماذا تفعل حتى تتخلص من كيدها”.
ودع الملك بدر باسم الشيخ ورجع إلى الساحرة، وبات عندها.
وأثناء نومه استيقظ، فوجدها تُخرج شيئًا وتغرسه في وسط القصر، فإذا هو نهر يجري.
ثم أخذت كبشة شعير بيدها ووضعتها فوق التراب، وسقته من هذا الماء فصار زرعًا مسنبلًا، فأخذته وطحنته دقيقًا، ثم وضعته في موضع ما، ونامت إلى الصباح.
فكرت في المكر به
لما أشرقت الشمس بأنوارها، قام الملك بدر باسم وغسل وجهه، ثم استأذن من الملكة في الذهاب إلى الشيخ.
فأذنت له، فذهب إليه وأعلمه بما جرى منها، فلما سمع الشيخ كلامه قال: “والله إن هذه الساحرة قد مكرت بك، ولكن لا تبال بها أبدا”.

ثم أخرج له رطل من السويق وهو الدقيق، وقال له: “خذ هذا معك، واعلم أنها إذا رأته تقول لك: ما هذا وما تعمل به؟ فقل لها: سأتناوله وكل منه، فإذا أخرجت هي سويقها وقالت لك: كل من هذا السويق، فأخدعها وأرها أنك تأكل منه”.
“لكن كل من الذي أعطيتك إياه، وإياك أن تأكل من سويقها شيئُا ولو حبة واحدة”.
“فإن أكلت منه ولو حبة واحدة فإن سحرها يتمكن منك، فتسحرك وتقول لك اخرج من هذه الصورة البشرية، فتخرج من صورتك إلى أي صورة أرادت”.
وتابع الشيخ كلامه: “وإذا لم تأكل منه، فإن سحرها يبطل ولا يضرك منه شيء، فتخجل غاية الخجل، وتقول لك: إنما أنا أمزح معك، وتقر لك بالمحبة والمودة، وكل ذلك نفاق ومكر”
“فأظهر لها أنت المحبة، وقل لها: يا سيدتي كلي من هذا السويق وانظري لذته، فإذا أكلت منه ولو حبة واحدة”
“فخذ في كفك ماء واضرب به وجهها، وقل لها اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى أي صورة أردت، ثم احبسها وتعال حتى أدبر لك أمرًا”.
ذهب بدر باسم ووعد الشيخ أن ينفذ كل ما قاله، وعاد إلى القصر.
فلما رأته الملكة قالت: “أهلا وسهلا ومرحبا” فرأى عندها سويقًا فوضعت سويقه في صحن وسويقها في صحن آخر.
وقالت له: “كل من هذا فإنه أطيب من سويقك”، فأظهر لها أنه يأكل منه.
فلما رأت ذلك، أخذت في يدها ماء ورشته به وقالت له: “اخرج من هذه الصورة وكن في صورة بغل أعور قبيح المنظر” إلا ان بدر باسم لم يتغير.
انقلب السحر على الساحر
فلما رأته على حاله اعتذرت إليه، وأخبرته أنها كانت تمزح معه.
وحتى يقبل بدر باسم اعتذارها طلب منها أن تأكل من سويقه، فأخذت منه لقمة وأكلتها.
فلما استقرت في بطنها اضطربت، فأخذ بدر باسم ماء ورشه على وجهها، وقال لها: “اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى صورة بغلة”.
فلما وجدت نفسها على تلك الحالة انحدرت دموعها على خديها، فتركها وذهب إلى الشيخ وأعلمه بما جرى.

وعد لم يصان
فقام الشيخ وأخرج له لجامًا وقال له: “خذ هذا اللجام وألجمها به، وإياك أن تتركه أبدا”.
فلما رأته تقدمت إليه ووضع اللجام في فمها، ثم خرج بها تاركًا المدينة.
ولم يزل سائرًا ثلاثة أيام حتى أشرف على المدينة، فلقيه شيخ وقال له: “يا ولدي من أين أقبلت؟”.
قال: “من مدينة هذه الساحرة”، قال له الشيخ: “إذن أنت ضيفي هذه الليلة”، فأجابه، وسار معه في الطريق.
وإذا بامرأة عجوز لما نظرت للبغلة بكت وقالت: “لا إله إلا الله، إن هذه البغلة تشبه بغلة ابني التي ماتت، وقلبي مشوش عليها، فبالله عليك يا سيدي أن تبيعني إياها”.
فقال لها: “والله يا أمي ما أقدر أن أبيعها”.
قالت له: “بالله عليك لا ترد سؤالي، فإن ولدي إن لم أشتر هذه البغلة ميت لا محالة”.
فقال: “ما أبيعها إلا بألف دينار” فأخرجت العجوز من حزامها ألف دينار.
فلما نظر الملك بدر باسم إلى ذلك قال لها: “يا أمي أنا أمزح معك وما أقدر أن أبيعها”.
فنظر إليه الشيخ وقال له: “يا ولدي إن هذه البلاد ما يكذب فيها أحد، وكل من يكذب قتلوه”.
فاضطر بدر باسم أن يبيع البغلة، ولم يحفظ وصية الشيخ.
مسحور مرة أخرى
وبمجرد أن سلم بدر باسم البغلة للعجوز، أخرجت اللجام من فمها، وأخذت ماء ورشتها به.
وقالت: “يا ابنتي اخرجي من هذه الصورة إلى الصورة التي كنت عليها”.
فانقلبت في الحال وعادت إلى صورتها الأولى، وأقبلت كل واحدة منهما على الأخرى وتعانقتا.
فعلم الملك بدر باسم إن هذه العجوز أمها وقد تم خداعه.
فأراد أن يهرب وإذا بالعجوز صفرت، فتمثل بين يديها عفريت كأنه الجبل العظيم.
خاف بدر باسم ووقف ثابتًا فركبت العجوز وابنتها على ظهر العفريت وأخذوا معهم الملك.
فطار بهم حتى وصلوا إلى قصر الساحرة، التي توعدت بالعذاب لبدر باسم.
ثم أخذت ماء ورشته به وقالت له: “اخرج عن هذه الصورة التي أنت فيها، إلى صورة طائر قبيح المنظر اقبح ما يكون من الطيور”.
فانقلب في الحال وصار طيرًا قبيحًا، ثم أمرت الملكة بحبسه ومنعت عنه الأكل والشرب.

باب الأمل
لكن جاريتها أشفقت عليه، وصارت تطعمه وتسقيه بغير علم الملكة.
وفي يوم من الأيام وجدت الجارية سيدتها غافلة، فتوجهت إلى الشيخ البقال وأعلمته بما حدث، وقالت له: “إن الملكة عازمة على إهلاك ابن أخيك”.
فشكرها الشيخ وقال لها: “لابد أن آخذ المدينة منها وأجعلك ملكة عوضا عنها”.
ثم صفر صفرة عظيمة فخرج عفريت له أربعة أجنحة، فقال له: “خذ هذه الجارية وامضي بها إلى مدينة جلنار البحرية، وأمها فراشة فإنهما أسحر من يوجد على وجه الأرض”.
وقال للجارية: “إذا وصلت إلى هناك فأخبريهما بأن الملك بدر باسم في أسر الملكة لاب”.
ثم حملها العفريت وطار بها، فلم يكن إلا ساعة حتى نزل بها على قصر الملكة جلنار البحرية.
فنزلت الجارية من فوق سطح القصر، وأعلمت الملكة بما جرى لولدها من أوله إلى آخره.

قامت إليها جلنار وأكرمتها وشكرتها، ودقت البشائر في المدينة، وأعلمت أهلها وأكابر دولتها بأنهم وجدوا الملك بدر باسم.
ثم إن جلنار البحرية وأمها فراشة وأخاها صالحًا أحضروا جميع قبائل الجان وجنود البحر؛ وطاروا في الهواء ثم نزلوا إلى مدينة الساحرة ونهبوا القصر وقتلوا من فيه.
ثم قالت جلنار للجارية: “أين ابني؟”.
فأحضرت الجارية القفص بين يديها، وقالت: “هذا هو ولدك”.
فأخرجته الملكة جلنار من القفص، وأخذت بيدها ماء ورشته به وقالت له: “اخرج من هذه الصورة إلى الصورة التي كنت عليها”، فلم تتم كلامها حتى انتفض وصار بشرًا كما كان.
لم الشمل
فلما رأته أمه على صورته الأصلية، قامت إليه عانقته وكذلك خاله صالح وجدته فراشة.
ثم شكرت جلنار الشيخ على فعله الجميل مع ابنها، وزوجته بالجارية التي أرسلها إليها، وجعلته ملك تلك المدينة.
بعد ذلك قال الملك بدر باسم لأمه: “يا أمي ما بقي إلا أن أتزوج ويجتمع شملنا ببعضنا أجمعين”.
هنا أرسلت جلنار من يأتيها بالملك السمندل، فأحضروه بين يديها ،وخطب منه الملك بدر باسم ابنته جوهرة.
فقال له السمندل: “هي في خدمتك وجاريتك وبين يديك” ثم أحضروا القضاة والشهود، وكتبوا كتاب الملك بدر باسم ابن الملكة جلنار البحرية، على الملكة جوهرة بنت الملك السمندل.
وتزين أهل المدينة وأطلقوا البشائر، ثم أقاموا الأفراح مساءً وصباحًا مدة عشرة أيام، ولم يزالوا في ألذ عيش وأهنأ أيام، يأكلون ويشربون ويتنعمون.

التعليقات