
كتبت: مريم ياسر
الزمان: 10 هجريًا
المكان: مكة المكرمة
حجة الوداع عام 10 هجريًا، هي أول وأخر حجة حجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وسميت بهذا الإسم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودع الناس فيها فقال: “يا أيُّها النَّاسُ خذُوا مناسِكَكم، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعدَ عامي هذا”.
خرج النبي -صلي الله عليه وسلم- من المدينة في 25 من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة ، وانطلق بعد الظهر حتى بلغ ذي الحليفة، فاغتسل لإحرامه وادهن وتطيب، ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، ثم أهل بالحج والعمرة وقرن بينهما، وواصل السير وهو يلبي ويقول: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك”.
فلما قرب من مكة نزل بذي طوى، وبات بها ليلة الأحد من اليوم الرابع من ذي الحجة وصلى بها الصبح ثم اغتسل، ودخل مكة نهارًا من أعلاها، فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من إحرامه؛ لأنه كان قارنًا وقد ساق الهدي معه، وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة؛ فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا من إحرامهم، وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بمكة أربعة أيام من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء.
وفي ضحى يوم الخميس الثامن من ذي الحجة توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من المسلمين إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة -وهو موضع بالقرب من عرفات وليس من عرفات-، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بنمرة، ولما زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن وادي عرنة وقد اجتمع حوله الألوف من الناس، فخطب خطبة الوداع.
خطبة الوداع
“الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير”.
“أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا”.
“أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها”.
“إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية -يَعني أعمالها- موضوعة، غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ -يَعني: القتل العمد قصاص- وشِبْهُ العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية”.
“أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم”.
“أيها الناس، إن النسيء زيادةٌ في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حُرم: ثَلاثٌ متواليات، وواحدٌ فرد، ألا هل بلَّغت، اللهم فاشهد”.
“أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم -يَعني أسيرات- ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد”.
“أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب الله. أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد”.
“أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً”.
وبعد الانتهاء من خطبة الوداع سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فقال: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقالَ: بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ اللَّهُمَّ، اشْهَدْ، اللَّهُمَّ، اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ”.
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى:” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.
وصايا خطبة الوداع
١- حرمة النفس والمال حرمة تجعل العدوان عليها جريمة وإثمًا، وتجعل إهدارهما بغير حق منكرًا وبغيًا.
2ـ اهدار تلك العادة السيئة التي كانت سائدة في الجاهلية، وهي ما نسميها اليوم الأخذ بالثأر؛ وبذلك قضى الإسلام على الأحقاد كلها، ودعا إلى ترك الثأر وحث على الصفح الجميل والتسامح الكريم عن كل ما كان في الجاهلية من دماء.
3ـ حرم الربا قليلة وكثيرة بصورة قاطعة وأساليبه المتعددة، فلا يأخذ الإنسان إلا رأس ماله فحسب.
4 ـ بين لنا الإسلام حدود العلاقة بين الرجل وزوجته تنظيمًا للأسرة؛ فجعل على الزوجة ألا تُدخل على فراش زوجها من يكره من الناس، وألا تأتي فاحشة مبينة لا قولًا ولا عملًا، وأباح للرجل أن يؤدب زوجه في غير قسوة ولا إسراف بالهجر في المضاجع، فإن لم يفد الهجر فبالضرب غير الشديد، وجعل على الرجل أن يعامل زوجه معاملة طيبة بالخير والمعروف، وألا يستغل ضعفها فيسومها الذل والهوان.
5 ـ اعتدال الزمن والمواقيت على أصولها الصحيحة التي خلق الله تعالى الكون عليها، بعد أن كان الناس قد غيروا في الشهور وبدلوا فيها لضلالهم هوى آثم في نفوسهم.
6ـ التأكيد على عقيدة الإيمان بالله -تعالى- واليوم الآخر وبلقاء الله عز وجل، ومحاسبته للناس على ما قدموا في حياتهم الدنيا من أعمال، قال تعالى: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه” سورة الزلزلة.
7 ـ استقرار عبادة الله تعالى وحده في الأرض، والتحذير من وساوس الشيطان ونزعاته وإغوائه للناس، وذلك بتزين بعض الأعمال السيئة لهم.
8 ـ وجوب أداء الأمانة كلها ولا فرق فيها بين بر وفاجر أو مسلم وكافر “أدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَك، ولا تَخُنْ مَن خانَك”.
9- وصية الرسول بالنساء حيث أوصى النبي خيرًا بالنساء، وتأكيد حقوقهن وكرامتهن فيقول الحبيب في خطبته ما يفيد توازن العلاقة الصحية بين الرجل والمرأة ومنع العدوان بينهما، ولو أخطأت المرأة يجوز تأديبها برفق، ولها حقوقها من مأكل وكسوة ومعاملة بالمعروف، فالمرأة عند زوجها أمانة وطبيعتها ضعيفة وقد استحللها بكلمة الله.
مرض النبي ووفاته
حين اشتد مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بجوار عائشة -رضي الله عنها- فأسندته إليها، وكان موته في بيتها وفي حِجرها، وعند اشتداد سكرات الموت عليه أقرّ أنّ للموت سكراتٍ، فرفع إصبعه وشَخِص بصره للأعلى، وسمعت عائشة منه كلماتٍ فأصغت إليه، وإذ به يقول: “اللهم أغفر لي وأرحمني وألحقني بالرفيق” وقد كرّرها ثلاثاً قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى.
توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- حين اشتد الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول السنة 11 للهجرة، في يوم لم ير في تاريخ الإسلام أظلم منه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“.
التعليقات