أكل لحوم البشر.. وأنجب ناشطة لحقوق الإنسان.. في ذكرى وفاته تعرف على «حكايات بوكاسا» الديكتاتور المتوحش

كتبت: مريم محمد إسماعيل

يتابع الكثيرون منا أفلام الرعب وغالبًا ما تكثر بها صور الوحشية والتعطش للدماء، وأكل لحوم البشر التي يستهجنها الجميع، على الرغم من كونها لم تخرج من حيز مشهد تمثيلي، فما هو رأيك لو علمت أن هناك من عاش بيننا، وانتهج هذا السلوك الدموي، شارك الأسود والتماسيح في أكل لحوم البشر، والتهام أجساد معارضيه، وكون إمبراطورية الدم وكان إمبراطورها الوحيد، إنه نابليون الشرق، الديكتاتور الذي أرعب أفريقيا، وأدى بها لظلمات الفقر والضياع، الإمبراطور بوكاسا في ذكرى وفاته تعرف على صاحب أغرب الحكايا التي عرفها التاريخ.

ولادة غريب الأطوار

ولد جان بيديل بوكاسا في 22 فبراير 1921 في منطقة بوبانجي في أفريقيا الاستوائية، وكان ابن زعيم القرية في عائلة امتلكت 12 طفلًا، ليتلقى تعليمه في مدرسة الإرساليات التبشيرية، وعندما بلغ 12 من عمره فوجئ بمصرع والده، على يد القوات الفرنسية -التي كانت تتولى حكم البلاد تلك الفترة- وتأتي الأقدار تباعًا؛ فتنتحر والدته عقب ذلك مباشرة.

تدخل أقارب بوكاسا وأخرجوه من المدرسة، وحاولوا إعداده ليصبح كاهنًا، ولكن طموحه كان أبعد من ذلك بكثير، فتركهم وتتطوع بالجيش الأستعماري الفرنسي عام 1939 برتبة مجند، وأثبت نفسه بجدارة في حرب الهند الصينية إبان الحرب العالمية الثانية، وظل يترقى في المناصب حتى وصل إلى رتبة نقيب.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان!

حين اكتسبت أفريقيا الوسطى استقلالها عام 1960، أرسل “دافيد داكو” الرئيس الجديد برقية إلى بوكاسا، -وكان قريبه- يدعوه ليكون رئيسًا أركان للقوات المسلحة، ولكن بوكاسا كان يطمع في المزيد؛ فاستغل سفر داكو خارج البلاد وجمع مناصريه ليقوم بإنقلاب عسكري دموي عام 1966، فكانت قواته تملأ الشوارع تقوم بتصفية جميع معارضيه.

في ظل صمت فرنسا وحكامها الذين أغدق عليهم بهدايا عبارة عن قطع ألماس لا تقدر بثمن، فقد منح “شارل ديجول” -حاكم فرنسا حينها- مساحة كبيرة من الأراضي غطت النصف الشرقي من البلاد؛ ليمارس بها هواية الصيد.

إمبراطورية أفريقيا الوسطى وبوكاسا الأول

حرص بوكاسا على الظهور بمظهر المتفرد المتميز؛ فكان يرتدي الزي العسكري حاملًا رتبة “الفيلد مارشال” وتزين صدره الأوسمة والنياشين، ولم يكتف بكونه رئيسًا للبلاد فحسب، فكان يعاني من جنون العظمة وظهر ذلك في تصرفاته، ليسير على غرار قدوته نابليون بونابرت، ويؤسس إمبراطورية أفريقيا الوسطى ويتوج نفسه إمبراطورًا عليها، تحت اسم “بوكاسا الأول” عام 1977، كما نصب ابنه وليًا للعهد؛ ليدخل التاريخ كأكثر الحكام غرابة الذين عرفتهم البشرية.

حفل تتويج بلغ 20 مليون دولار

قرر بوكاسا إقامة حفل تتويج ضخم لينصب نفسه إمبراطورًا، ولم تعترض فرنسا بل أرسلت له الأموال اللازمة لإقامة حفل تنصيب ضخم، كما أمدته بقوات خاصة لحمايته والدفاع عنه؛ ليزيد شعوره بالعظمة والفخر.

كان حفل تنصيب بوكاسا اسطوريًا بمعنى الكلمة، أنفق به 25 % من ميزانية بلده؛ لينهار اقتصاد أفريقيا الوسطى، وتبلغ تكلفة الحفل 20 مليون دولار وبوكاسا يرتدي زيًا شبيهًا بزي نابليون، ويحيط به فرسان يرتدون كفرسان القرن التاسع عشر؛ فكان الحفل تجسيدًا لآلة السفر للزمن الماضي.

كانت الحدائق تعبق بالأزهار على كلا الجانبين، وفي الطرقات تشدو المعازف بألحان شتى، بينما في منتصف القاعة توجد طاولة تزخر بأنواع الطعام من كافة ثقافات العالم، وبوكاسا تجده يجلس على عرشه، يزين رأسه تاج مرصع بأنواع الجواهر الماس البالغ قيمتها 5 مليون دولار، ويلوح بصولجانه الذي لا يفارق يده، فيكاد يسقطه من كثرة ما يبلغه من مال ليزن 5 كيلوجرامات.

كل هذا وأكثر في حفل بوكاسا في واحدة من أفقر بلدان العالم، التي عانت من الجوع والبطالة على مر عصور شتى، ومن ظلم الطغاة والمستعمرين الذين أوقفوها على مشارف الهاوية.

مذبحة الزي المدرسي.. الشعرة التي أسقطت حكم بوكاسا

رغب بوكاسا أن يحول عاصمة بلاده بانغي إلى قطعة من أوروبا؛ ففرض على جميع طلاب المدارس ارتداء زي مدرسي موحد، مطرز بصورة الديكتاتور وتنتجه مصانع زوجته كاثرين، إلا أن الزي كان باهظ الثمن؛ فلم يستطع الأهالي شراؤه، وخرج الطلاب في مظاهرات ضد الطاغية، ليفقد الإمبراطور صوابه ويأمر حرسه بإعتقال التلاميذ الذين لم تتجاوز أعمارهم ال15.

ووسط مذبحة هي الأبشع من نوعها، يحاكم الطلاب بالإعدام ويزهق أرواحهم، منفذًا الحكم بنفسه ليُردي 100 طالب قتيلًا وسط الدماء والصراخ، ويعدم الباقين في حديقة قصره بمركبات عسكرية ضخمة تنثرهم لأشلاء.

غرائب القول وسر القنبلة الذرية

الموت لم يكن عنوان بوكاسا فحسب بل الجنون والعظمة، فكان أول قائد أفريقي يعلن أكثر من مرة عن رغبته الملحة في امتلاك قنبلة ذرية، على الرغم من كون بلاده أكثر فقرًا من أن تملك سلاحًا عاديًا فضلًا عن سلاح ذري.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب؛ فحكم بوكاسا بلاده بسياسة تبث الرعب في القلوب، إذ أقر قاعدة أن اللص الذي يسرق مرتين تقطع له أذنه، وإن تجاوزها للثالثة تقطع له يده.

كما عُرف ببذخه في كل شيء حتى في الزواج؛ فكان الكاثوليكي الوحيد في التاريخ الذي تزوج عددًا كبيرًا من النساء، وأنجب عشرات الأبناء لدرجة أنهم لا يعرفون بعضهم البعض.

كان بوكاسا جزارًا داميًا لمعارضيه، في ذات ليلة أقام وليمة كبيرة في قصره جمع بها كل الوزراء، وعقب الانتهاء من الطعام أخبرهم أن اللحم الذي أكلوه هو جسد وزير معارض له، كما اشيع أنه امتلك حديقة حيوان بقصره، وكان يعشق التماسيح ويدللها، ومن يعارضه من الوزاء يصبح وجبة العشاء لتماسيحه الأربعة، أو يختزنه بثلاجة أعدت خصيصًا لهذا الغرض.

عربة الخديوي إسماعيل.. حكايته مع السادات

زار بوكاسا متحف العربات الملكية في بولاق خلال جولته في مصر، وأعجب كثيرًا بعربة الخديوي إسماعيل باشا وطلب من السادات أن يعطيه العربة؛ ليستخدمها في مراسم التتويج لكن السادات رفض الأمر، ليعود بوكاسا مسرعًا إلى بلاده ويقطع علاقاته مع مصر إثر ذلك.

عزله عن البلاد ورحيل الطاغية

بعد شهر من مذبحة الزي المدرسي عام 1979 وجد الفرنسيون أن كلفة الاحتفاظ ببوكاسا باتت أكثر مما يقدمه لهم، خاصة وأن الأنظار سلطت عليه منذ أن جن جنونه، فكانوا بحاجة إلى حاكم أكثر هدوءً؛ ليوقف تلك القنبلة الموقوتة التي سرعان ما ستطالهم جميعًا، فتجارة الألماس عامل أهتمام الفرنسيون بالبلاد تدهورت بسبب قرارات بوكاسا، لذلك عندما سافر بوكاسا إلى ليبيا وبمجرد هبوط طائرته في طرابلس، أمرت فرنسا بعدم رجوعه إلى أفريقيا الوسطى، وأعادت دافيد داكو إلى الحكم وأرسلت قواتها لحفظ الأمن في البلاد، ليذوق بوكاسا من كأس الخيانة الذي سكبه أولًا، فسافر إلى باريس ليقضي المتبقي من عمره في منفاه.

الوحشية وأكل البشر

عُثر في سجن بانجي الكبير على مجموعة من العظام البشرية لتلاميذ عُذبوا حد الموت، وكذلك في قصر الإمبراطور وجد عظام ل37 طفل، وقيل في ذلك الوقت أن بوكاسا شارك الأسود والتماسيح في أكل لحوم البشر، وعُرض على المحكمة عام 1986 بتهمة القتل وإخفاء الجثث وأكل لحوم البشر، وبموجب أول تهمتين حكم عليه بالإعدام غيابيًا، بينما تمت تبرئته من تهمة أكل لحوم البشر، بدفاع عرف بكونه الأغرب على الإطلاق حيث قال: “لحم البشر مالح يا سيدي، وأنا لا أحب اللحم المالح” فكيف عرف بوكاسا أن اللحم مالحًا إن لم يتذوقه، وفي نهاية الأمر أُطلق سراحه عام 1993، وتوفي بعد ذلك بثلاثة أعوام 1996 إثر سكتة قلبية.

الشوكة المؤذية التي أنجبت وردة فواحة

رغم كل ما مر به بوكاسا من إجرام وبشاعة، إلا أن ابنته “كيكي بوكاسا” تعتبر من أشهر النشطاء لحقوق الإنسان، حيث سخرت موهبتها وعملها كرسامة لمساعدة أطفال القرى والبقاع وإنتاج كتب لهم، فقد وهبت ابنة الديكتاتور الذي قتل أطفال المدارس وأكل لحومهم، حياتها ووقتها لتبعث الأمل والحب في قلوب الأطفال، والعمل على إسعادهم ورسم البسمة على وجوههم.

التعليقات