جائحة الطاعون.. تفاقم الأوبئة في قناة السويس.. ونظام الشيفت.. «قصر السكاكيني» كما لم تعرفه من قبل

الزمان: 1897

المكان: منطقة الظاهر بحي السكاكيني 

في قلب العاصمة المصرية ووسط ميدان عام، شيدت تحفة معمارية فريدة من نوعها، جمعت بين الطراز الإيطالي والروماني والقبطي، لتخلق أروع وأقدم قصور مصر «قصر السكاكيني» الذي كان أيقونة الجمال في عصره، وشهد فترة فاصلة في تاريخ القاهرة الحديث، ولكنه الآن أصبح يعاني من الإهمال والنسيان، فما حكاية قصر السكاكيني وصاحبه؟ الذي ضرب مثالًا في الذكاء والعبقرية، ليتحول من عامل في قناة السويس، لأحد أغنياء مصر وأشهرهم صيتًا وسمعة.

الشاب السوري.. صاحب التحفة الإيطالية

في عام 1856 في القرن 19 قدم إلى مصر شاب يدعى «غابرييل حبيب السكاكيني»، وكان سوري الأصل ولد في دمشق عام 1841، وعندما بلغ من العمر 16 عام، هاجر مع أسرته إلى مصر ليتولى العمل بشركة قناة السويس في بورسعيد، بينما كان والده يعمل في تجارة الأسلحة البيضاء والسكاكين، ولهذا لقبت عائلته ب «السكاكيني».

السكاكيني.. صاحب عقلية فذة وذكاء ألمعي

وعلى مدى 4 سنوات منذ هجرة غابرييل إلى مصر، ظل يعمل بشركة قناة السويس ولا يتقاضى سوى مبلغ تافه، تراوح من 3-4 فرنكات فرنسية في الشهر، وظل الحال كما هو حتى ظهرت أزمة في القناة السويس، فقد انتشرت الفئران بطريقة مهيبة حاملة معها الأمراض والأوبئة والطاعون؛ فأرعبت الكثيرين وجعلتهم يتركون عملهم؛ مما خلق أزمة اقتصادية وصحية في البلاد.

استطاع السكاكيني بدهاؤه أن يحل أزمة انتشار الفئران وتفاقم الأوبئة في قناة السويس، عن طريق إرسال طرود من القطط الجائعة المحملة على الجمال؛ لتقضي على الفئران المنتشرة، وبذلك قد تفادى خطر محدق كانت البلاد ستُبتلع في براثنه.

سمع الخديوي إسماعيل بحكاية حبيب السكاكيني، وأعجب بذكاؤه وقدرته على خلق حل سريع ومبتكر للمشكلة؛ فأسند إليه مهمة استكمال بناء دار الأوبرا الخديوية في موعدها، والتي خصصها الخديوي إسماعيل لاستقبال الرؤساء والملوك من كل مكان في العالم.

بدأ حبيب العمل تحت يد المعماري الإيطالي “بيترو أفسكان”، وكان العمال في ذلك الوقت يعملون في الفترة النهارية، وحتى يستطيع السكاكيني أن ينهي البناء في موعده قام ولأول مرة في مصر بعمل نظام الشيفت، فقسم العمل على 3 فترات في كل فترة 8 ساعات، لمدة 90 يومًا؛ ليكون العمل مستمرًا على مدار 24 ساعة.

نجح السكاكيني في المهمة الموكولة إليه، وانتهى بناء دار الأوبرا في الوقت المناسب لوصول الملوك الأوروبيين، لحضور أكبر احتفال لافتتاح قناة السويس عام 1869، واستمرت دار الأوبرا الخديوية قائمة لمدة 100 عام، حتى اُحرقت عام 1971 وحل محلها جراج الأوبرا، لتتحول من تحفة فنية مصدر للموسيقى والفن، إلى كتلة من الخرسان ومصدر للكلاكسات والضوضاء.

عامل الـ 4 فرنكات يصير أحد بشوات مصر

ومع مرور السنوات التي أثبت بها حبيب كفاءته، أعطاه الخديوي إسماعيل اللقب العثماني «بيك»، بعد موافقة السلطان عبدالحميد عام 1869، كذلك منحه البابا الروماني اللقب البابوي «كونت» عام 1901 تقديرًا لخدماته لمجتمعه.

واستمرت رحلة صعود السكاكيني حتى حصل على لقب «باشا»، وأصبح من أشهر وأثرى المقاولين في ذلك الزمان، فذلك الرجل ضجم البنيان صاحب الإصرار والطموح، استطاع أن يحفر اسمه في التاريخ المصري، وما زالت حكاياته حتى الآن تُسطّر في صفحات الكتب، وتتناقلها الأجيال عن مجيء شاب سوري خلق تحفة في غاية الجمال.

تحفة إيطالية في قلب القاهرة

نشأت علاقة صداقة قوية بين الخديوي إسماعيل وحبيب باشا السكاكيني، وتقديرًا لمجهوداته منحه الخديوي مساحة من الأرض في منطقة الظاهر بالقاهرة، ليبني عليها قصره الشهير، وكانت تلك البقعة تشغلها قديمًا بركة عرفت باسم «قراجا التركماني» أو «بركة قراجا»، فقام السكاكيني بردمها استعدادًا لإنشاء القصر الجديد.

أثناء زيارة السكاكيني لإيطاليا أعجب بقصر إيطالي ووقع في غرامه، وكان هذا القصر مبني على الطراز الإيطالي العتيق، مجسدًا في فن «الروكوكو» الذي يعتمد على الزخرفة في العمارة والديكور والأثاث والتصوير والنحت، وعندما عاد حبيب باشا إلى مصر طلب من شركة إيطالية أن تبني له القصر، ليكون نسخة من القصر الذي أثار إعجابه، ليبدأ تشييد التحفة الفريدة التي جمعت ما بين الطراز الإيطالي والروماني والقبطي، وتمركزت في موقع ممتاز يتفرع منه 8 طرق رئيسية، وبالتالي أصبح القصر نقطة مركزية في القاهرة.

استمر بناء القصر 5 سنوات بدأت عام 1897، وخلال ذلك الوقت لاحظ حبيب باشا السكاكيني أن المنطقة التي يقع بها القصر، على الرغم من كونها متميزة جغرافيًا إلا أنها مهجورة لا يقطنها أحد، فبدأ يشتري الأراضي المحيطة بالقصر ويبني عمارات سكنية تشرف على القصر، ويؤجرها للأخرين -وساعده كونه مقاولًا على ذلك- ومع مجيء العام الخامس لبناء القصر دبت في المنطقة الحياة، وأصبح البشر مرتادوها الأوائل ينظرون إلى هذا الصرح الشامخ، الذي صار بمثابة الجوهرة التي تزين التاج وعرف هذا الحي بحي «السكاكيني».

جولة داخل قصر السكاكيني

تبلغ مساحة قصر السكاكيني نحو 2698 متر مربع، تضم بذلك أكثر من 50 غرفة موزعة على 5 طوابق، ويشمل القصر 400 نافذة وباب، كذلك يحتوي على 300 تمثال أبرزها «تمثال نصفي للسكاكيني باشا» يتمركز أعلى المدخل الرئيسي للقصر، وهناك أيضًا تمثال «درة التاج»، وتمثال على هيئة تمساح، وتماثيل أخرى مصنوعة من الرخام.

كما يوجد 6 بوابات مداخل للقصر، تقع كل منها أمام أحد الشوارع، فهناك اثنان أمام شارع السكاكيني وامتداده، ومثلها أمام شارع ابن خلدون وامتداده، ومثلها أمام شارع الشيخ قمر وامتداده.

يحيط بالقصر 4 أبراج يتكون كل برج من 3 طوابق، تنتهي بقبة مخروطية الشكل ذات تصميم بيزنطي، أما بالنسبة للحديقة فتشمل أنواع مختلفة من الأشجار والزهور، وعلى الرغم من عدم اتساعها إلا أنها ساعدت على عزل القصر نوعًا ما عن المباني الحديثة من حوله.

إذا دخلت القصر من أحد بواباته ال 6 وفي داخل البناء، ستطل على الصالة الرئيسية التي تبلغ مساحتها 600 متر مربع، ومنها تستطيع التوجه إلى باقي قاعات القصر، فمثلًا ستجد في الطابق الأول 4 غرف، وإذا انتقلت للطابق الثاني، تستطيع أن ترى 3 قاعات و 4 صالات وغرفتين، وهناك أيضًا مصعد للقصر، تستطيع من خلاله أن تصل إلى الشرفة، التي تحتوي على قبة مستديرة تؤدي إلى غرفة الإعاشة الصيفية.

أما بدروم القصر، فينخفض 6 درجات عن الأرض، ويضم 3 قاعات و4 صالات ودورات مياه وغرفتين، وكان في السابق مخصصًا للخدم والمطابخ، ولا يوجد به أي زخارف.

يتزين القصر العريق بالعشرات من التحف الفنية الرائعة، منها أشكال فتيات وأطفال، وتماثيل لأسدين بواجهة القصر اختفى لونها الأصلي بسبب عوامل الزمن.

كما يجمع القصر بين عددًا من الطرز المعمارية، أشهرها الطراز الرومانسكي، وأيضًا الطراز الإيطالى والرومانى واليونانى والذي يتضح في الزجاج، وهناك أيضًا داخل القصر عناصر زخرفية تاريخية ومهمة تنتمي لطرز الركوكو والباروك، بالإضافة إلى عناصر زخرفية إسلامية متمثلة في المحاريب، وعنصر المفروكة في قاعة الاستقبال على السياج الخشبي.

مقتنيات رائعة يتميز بها قصر السكاكيني 

من أجمل المقتنيات التي توجد بقصر السكاكينى، لوحة زيتية بالطابق الأول من القصر في سقف حجرة الطعام، ويحيط بها إطار ثماني الشكل، فيظهر بها اللون الأزرق الفاتح من الألوان الزيتية، وهذه اللوحة لسيدة عارية وبجوارها سيدة أخري تحمل باقة ورود، والثانية لسيدة عارية أيضاً بجوارها طفل صغير وحولها رسوم لملائكة مجنحة، تتميز بالدقة والوضوح ورائعة الجمال.

وتنتشر بالقصر الكثير من اللوحات والمناظر الطبيعية والإنسانية ومناظر أخرى تحتوى رسوم حيوانات، كما يُزين القصر من أمام  المدخل نافورة جميلة مصنوعة من الرخام، تتكون من دورين بها زخارف لرؤوس السباع رائعة الجمال، وبجانبها تمثالان يجسدان أسدًا جالسا مصنوعًا من الرخام يخرج الماء من فمه.

نقل ملكية القصر إلى الدولة

توفى حبيب باشا السكاكيني عام 1923 وأصبح القصر ملكًا لورثته، فقام الورثة وخاصة أحد أحفاده والذي كان طبيبًا بالتنازل عن القصر لوزارة الصحة، عقب ثورة يوليو 1961؛ ليصبح متحفًا صحيًا ولكن الأمر، لم يسير كما تخيل.

قصر السكاكيني من تحفة فنية إلى أحد المخازن

من عام 1961 حتى 1983 تم نقل متحف التثقيف الصحي من عابدين إلى قصر السكاكيني، ليكون مقرًا خاص به وتابع لوزارة الصحة، وذلك بأمر من محافظ القاهرة.

أما في عام 1983 صدر قرار وزاري من وزارة الصحة بنقل متحف التثقيف الصحي إلى المعهد الفني بإمبابة، وتم نقل بعض المعروضات الهامة إلى إمبابة، ولكن تم تخزين باقي المعروضات في بدروم القصر ليصبح مخزنًا بعد أن كان تحفة عصره.

وفي عام 1987 تم تسجيل القصر في عِداد الآثار الإسلامية والقبطية، ليتم وضعه تحت رعاية المجلس الأعلى للآثار.

عانى من الإهمال وأصبح فريسة للطامعين

عانى القصر من الإهمال والنسيان وتعرّضت بعض أجزاؤه للانهيار، وبدأت الشروخ تعرف طريقها إليه، فضلاً عن اختفاء بعض النقوش والتماثيل التي تحيطه من كل جانب تحت الأتربة والتلوث.

ليس هذا فقط فقد تعرض القصر لعمليات سرقة لكثير من محتوياته، فسرقت معظم الحراب الحديدية للسور الخارجي، كذلك تعرض تمثالي الأسدين للتخريب فلم يعد يظهر من وجهيهما ما يدل على فصيلتهما؛ بسبب طمس ملامحهما وكسر أقدامهما الأمامية.

كذلك سرقت بعض تماثيل القصر، فسُرق تمثال «ملاك»، وتمثال «درة التاج» الذي كان يمثل فتاة ترتدي تاج ويعد من أقرب وأحب التماثيل إلى حبيب باشا السكاكينى باشا، وكذلك سرق تمثال «مرمر» الذي كان يتميز بتغير لونه عند تعرضه لأشعة الشمس صباحًا فيصبح أكثر من رائع يسر الناظر إليه، أضف لذلك ما تم تحطيمه وكسره من تماثيل.

«أنا من الظاهر»

إذا نظرت الآن لقصر السكاكيني لن تلاحظه من كثرة الزحام، وانكفاء المباني الحديثة عليه من كل جانب، فالقصر لم يعد في مكانه كما كان قديمًا؛ لذا ظهرت مبادرة أسسها مجموعة من سكان منطقة الظاهر، تحمل عنوان «أنا من الظاهر» بهدف تحويل القصر إلى مركز ثقافي، وكان من اقترحاتهم أيضًا أن يفتح القصر أبوابه للجمهور كي يروي لهم تاريخ منطقة الظاهر على مر العصور، لكن أبواب القصر ظلت موصدة.

ترميم قصر السكاكيني

بدأت هيئة الآثار بالفعل في وضع خطة مدروسة للترميم حتى تعود بالقصر إلى الحالة التى تتناسب مع قيمته الفنية والأثرية، والقصر حاليًا مفتوح للزائرين وغالبًا من طلبة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية والعاشقين لفن النحت ومشاهدة فن العمارة والتحف النادرة من التماثيل والزخارف وروعة التصميم، ودراسة التماثيل والزخارف التي تملأ القصر، فتمضي الساعات في الدراسة والبحث والأستمتاع.

التعليقات