عندما تتواجد في أحد الأفراح أو المناسبات السعيدة ويعج المكان بالضجيج، وفجأة تجد صوتًا عاليًا طويلًا يخترق هذه الضوضاء ويظل يعلو بشكل متواصل، تطلقه إحدى النساء وسط الحفل ويطلق عليه زغرودة أو “زغروطة”.
البعض قد يُجيدها بسهولة والبعض الآخر يجد صعوبة بالغة في إتقانها، لكن يتفق أغلبنا في عدم معرفة أصل الزغرودة وكيف نشأت وتطورت عبر الزمان، وما السر في ارتباطها الوثيق بالمناسبات السعيدة في عصرنا الحالي؟
جوزة الحلق.. ما تعنيه الزغرودة
كلمة الزغرودة مشتقة من الفعل الرباعي “زغرد” وجمعها زغاريد، وتعني أن ترفع النساء أصواتهن عاليًا في المناسبات المختلفة، كذلك يُطلق اللفظ على الحنجرة التي تُدعى جوزة الحلق، حيث تنتج عن ترديد الصوت بكلمة معينة في الحلق عبر حركات معينة في تواتر وانسجام واضحين.
أخوات الزغرودة في الوطن العربي
يطلق على الزغرودة أسماء كثيرة حسب البلدان المختلفة وثقافات الشعوب ومنها: “الزغروطة”، أو”الزغروتة”، أو”الهلهولة”، أو “اليباب”، أو “الغطرفة” في الخليج العربي، وتعرف في المغرب باسم “الزغاريت” وتعني الولولة كذلك تُسمى “التزغريطة” ، وفي الشام يطلق عليها “المهاهاة” وتعني المباركة.
وفي كتاب “لسان العرب” لابن منظور ذكر تفصيلًا بعض الأسماء الخاصة بالزغرودة في الدول المختلفة منها: “الزلغوطة” في سوريا، و”لولشة” في دول البحرين والكويت وقطر، و”توليلة” في الجزائر، و”صهيل” أو “لبلبة” في عمان، و”تحيير” في اليمن”.
هل تسائلت كيف تتم الزغرودة؟
عملية الزغرودة تصدر عن طريق تحريك اللسان على الجانبين الأيمن والأيسر بشكل متوال، مع إخراج الهواء من الحلق بقوة، وأحيانًا تلجأ النساء إلى الاستعانة باليد لإتمام العملية بنجاح.
أصوات جاءت تتلوها أصوات
من المعروف أن صوت الزغرودة في مصر يكون “لولولللي” لكن هل هذا الصوت واحد في جميع الدول، بالطبع لا، الأمر يختلف من دولة لأخرى فمثلًا عند “الأمازيغ” -بلاد المغرب العربي- يكون الصوت “يويويويو”، بينما في السودان الصوت يكون “ياياياياي”، وفي تونس “ريريريريه”.
والمفاجأة ينتشر بسويسرا وبعض جبال الألب نوع معين من الغناء الغريب يطلق عليه “yodel” والذي يشبه نوعًا ما الزغرودة، كذلك هناك أفعال تشبه الزغرودة في الوطن العربي مثل “الندبة” عند قبيلة “الشحوح” بالإمارات، أيضًا الأغريق قديمًا كان لديهم أفعال مشابهة للزغرودة اطلقوا عليها “ololugê”.
من العصر الجاهلي للفراعنة.. كيف ظهرت الزغرودة؟
تعددت الأقاويل بشكل كبير حول أصل الزغرودة ونشأتها التاريخية، ليبدأ كل باحث يدلو بدلوه حول البداية الحقيقية لظهور الزغرودة، ويُرجح عدد من الباحثين أنه لا توجد حقيقة مؤكدة حول ظهورها، بينما يميل البعض لاتجاه دون الآخر.
1- فترة الجاهلية
هناك رواية تقول أن النساء في فترة الجاهلية كانوا يرافقون الرجال إلى ساحة المعركة في الحروب، ويبدءن بإطلاق الزغاريد لإثارة الحماس بداخلهم مع قرع الطبول والدفوف.
بينما توجد رواية آخرى تذكر أن النساء في العصر الجاهلي كن يقمن بالزغاريد بصورة جماعية للآلهة، كنوع من الغناء والتضرع لطلب الغوث والعون وسقوط المطر.
لكن رفض بعض الباحثين صحة هذه النظرية وقال بأن العصر الجاهلي كان يقتصر على الدفوف والطبول وكان التصفيق هو الغالب في الأمر، أما الزغاريد فلم تظهر في ذلك الوقت.
2- الهند
ورد في أحد النصوص أن الهند كانت من أوائل الدول التي ظهرت بها الزغرودة كأحد الموروثات القديمة، ويعود أصلها لولاية البنغال في شرق الهند وكان يطلق عليها اسم “جوكار”.
يعتقد الهنود أنها كانت تعمل على طرد الطاقة السلبية، فعندما يتحرك اللسان يمينًا ويسارًا يُخرج أسهم تعمل على تكسير الحسد، وبالتالي تتولد لدية طاقة إيجابية.
ومن ناحية أخرى هناك أقاويل تشير إلى أن أصل الزغرودة يعود إلى قبيلة “السو”، الذين استخدموها في الحروب لترهيب الأعداء.
3- الغجر
هناك عدد من الكتب تنسب الغجر إلى الهند، وبالتالي تنسب إليهم الزغرودة ولكن ذلك غير صحيح.
4- الهنود الحمر
يقول هذا الرأى أن أصل الزغرودة يعود إلى الهنود الحمر، حيث كانت جماعات من الهنود الحمر يخرجون لصيد الثيران، فيقومون بإطلاق أصوات عالية بأفواههم من ثلاث جوانب محيطة بالثور حتى يحددون اتجاه سيره ليقع في الفخ.
5- الفراعنة
تُرجع هذه الرواية أصل الزغرودة للعصر الفرعوني، حيث كانت عبارة عن أصوات حادة تطلقها الحنجرة ويتحكم في رنينها اللسان، ويكون ذلك عند الابتهاج والفرحة.
6- السودان
ذلك الرأي الذي حظى بترجيح كبير بين الباحثين حول الأصل التاريخي للزغرودة، بأنها جاءت من السودان وتحديدًا من النوبة، فكانت في ذلك الوقت مجرد اجتهادات نسوية، لكن عندما انتقلت إلى مصر وباقي الدول تم تغييرها وفقًا لعادة كل بلد.
تطور الزغرودة.. طلب استغاثة في المناسبات السعيدة
الزغرودة هي عبارة عن الأصوات البدائية للإنسان قبل اختراع اللهجات، وتكون عن طريق إخراج صوت يشبه الصراخ للتعبير عن الخوف أو الاستغاثة، إلا أن الأمر بدأ يتطور بين النساء للتعبير عن مشاعرهم في الوقت الذي كان يتم قمعهم فيه.
لكن مع مرور الوقت أصبح النساء يتحكمن في الصوت بتنغيمة معينة عن طريق اللسان والاستغانة باليد أحيانًا أخرى، وفي بعض القبائل يصاحب الزغرودة كلمات كما يحدث حاليًا في الشام وفلسطين، والمفاجأة أن هناك بعض أنواع من الطيور يشبه صوتها الزغرودة.
بيان للقوة والسعادة.. المناسبات التي تستخدم بها الزغاريد
في عصرنا الحالي أصبحت الزغاريد تستخدم للتعبير عن كل ما هو مفرح وسار مثل: الأعراس، والعودة من الحج، والتفوق في الدراسة، كذلك وقت الاحتفال بمولود جديد، وفي حفلات الطهور، والموالد المقامة بالأحياء الشعبية، وذكرى المولد النبوي، وأيضًا تطلق في الجنازات إذا كان المتوفى شهيدًا.
وتُستخدم الزغرودة في كل الأوساط فهي لا تقتصر على الأوساط الشعبية فقط، حيث تستخدمها الطبقات الراقية أيضًا لارتباطها بالحماس والتحفيز والقوة والصلابة؛ لذا أقام “محمد على باشا” حفلًا لابنه طوسون بعد وفاته في معركة.
وفي بعض المدن المغربية مثل مدينتي الدار البيضاء وبني ملال تطلق النساء التي استقبلت مولودًا ذكرًا 3 زغاريد، بينما تطلق زغرودة واحدة عند استقبال أنثى ولكن هذه العادة آخذة في الاندثار.
الزغاريد في الأمثال الشعبية
استخدمت بعض الدول الزغاريد في أمثالها الشعبية مثل:
1- مصر
“الحزن يعلم البُكا والفرح يعلم الزغاريد” والذي يعني الاعتياد على الحزن يعلم البكاء والشعور بالضيق، بينما الاعتياد على الفرح يعلم التفاؤل والبهجة.
“زغرطي يا اللي انتي مش غرمانة” ويُقال عند حصول شخص على شيء دون أن يبذل أي تعب أو مجهود.
2- تونس
“الزغاريد أكثر من الكسكسى” ويعني الاهتمام بالمظاهر بدلًا من الاهتمام بالأشياء الهامة.
3- السودان
“كتيرة الزغاريد على راعي البقر” الذي يستخدم عند استكثار أمر ما على أحدهم، والتقليل من شأن الآخرين والسخرية منهم.
4- لبنان
“ألف دعوة ما مزقت قميص وألف زلغوطة ما جوزت عريس” يدل على أنه مهما كثرت الزغاريد فهي ليست كافية ليتزوج الرجل.
5- كتاب “الأمثال الشعبية” لأحمد تيمور باشا
“الزغاريد بالمحبة والنقوط بالغرض” أي يوجد هناك بعض الأمور التي نفعلها بالمحبة مثل الزغاريد، وهناك أشياء أخرى نفعلها رغمًا عنا مثل إعطاء المال في المناسبات.
“الزغاريد تبقى على رأس العروسة” إشارة للقيام بفعل بعد فوات الأوان.
الزغرودة بين الفن والأدب
من ناحية الفن جاءت الزغاريد في نهاية فيلم “عمر المختار” عندما قام الاحتلال بإعدامه بواسطة حبل المشنقة، وقفت نسوة من النساء الليبيات يزغردن بقوة تعبيرًا عن فرحتهن بعمر المختار لنيله مرتبة الشهادة عند الله، وتأكيدًا على انتزاع القوة من جيش الاحتلال الإيطالي؛ لأنه لك يستطع هزم زعيمه وإرادة الشعب الليبي.
أما من ناحية الأدب ففي الإلياذة يَصُم الملك عوليس اذنيه حين كان في مركبه قرب الشواطئ الليبية؛ حتى لا يسمع أغاني الليبيات التي تسمى سيريناد.
فوائد وأضرار الزغاريد
من ناحية الفوائد فالزغاريد تجدد الشعور بالسعادة؛ لارتباطها بالمناسبات المفرحة وهي هامة أيضًا لتقوية عضلات اللسان، أما من ناحية الأضرار فإن إطلاقها لفترة طويلة أو لعدة مرات يسبب بحة في الصوت.
التعليقات