الزمان: 525 ق.م
المكان: الصحراء الكبرى في مصر الفرعونية
لعنة الفراعنة.. الحضارة الفرعونية تلك الحضارة التي استطاعت تخليد ذكراها منذ القدم، وحتى الآن ما زال نجمها يلمع في سماء العصر الحديث، إلا أن حكايتهم كانت مليئة بالأسرار والغموض خصوصًا تلك القصص القديمة المتعلقة بالسحر.
ومن أبرز هذه القصص قصة الملك قمبيز الذي أرسل جيشًا كاملًا لغزو الأراضي المصرية، ولكن لعنة الفراعنة كانت لهم بالمرصاد لتبتلعهم عاصفة عاتية من رمال الصحراء دون أن تترك لهم أي أثر.
صراع العروش للرهان على لقب الإمبراطورية
لعنة الفراعنة.. في عصور ما قبل الميلاد دخلت الحضارات القوية في موجة من التصارع والحروب والمعارك، للمراهنة على الفوز بلقب “إمبراطورية” وتوسيع رقعة البلاد.
ومن ضمن هذه الحضارات حضارة عظيمة استطاعت أن تحقق زخرًا من الإنجازات التاريخية، ساعدتها على تكوين إمبراطورية مهيبة كانت الأقوى على الإطلاق، ألا وهي «حضارة بلاد فارس» -إيران حاليًا-.
حضارة تطمح في المزيد من السيادة
وعلى الرغم من القوة والنفوذ الذي حظيت به الحضارة الفارسية وسط أقرانها، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة لها خاصة وأن الحضارة المصرية القديمة كانت تنافسها على الساحة؛ لذا فكان الطموح الأكبر للحضارة الفارسية هو ضم بلاد مصر القديمة تحت نفوذها وسيطرتها.
حفار القبور يأخذ على عاتقه تحقيق حلم والده
في عام 530 ق.م تولى حكم بلاد فارس الملك قمبيز بن قورش العظيم أو المعروف في المخطوطات اليونانية باسم “حفار القبور”، الذي طالما وجد سعادته في محاربة البلاد المجاورة وزهق الأرواح، ومنذ أن تولى حكم بلاد فارس كان شغله الشاغل غزو مصر الفرعونية وضمها لبلاد فارس، تمامًا كما حلم والده بذلك.
ملكًا عظيمًا يُرهب الأعداء.. ولكن لا مفر من الحرب
في ذلك الوقت كانت مصر تحت حكم الملك أحمس الثاني والذي كان ملكًا عظيمًا ومخططًا عسكريًا بارعًا، معروفًا بالذكاء والحكمة والدهاء؛ لذلك كانت تخشى الدول الأخرى الدخول في أي صراع مع مصر؛ رهبة من الخسارة الفادحة، إلا أن ذلك لم يثني من عزم قمبيز الذي أصر على احتلال البلاد مهما كان الثمن، نظرًا لما تتمتع به مصر من موقع جغرافي ممتاز سيسهل عليه إكمال المراحل التالية في خطته، ألا وهي متابعة احتلال البلاد الأخرى عن طريق مصر.
سلام ينتهي بالشروع في حرب
بدأ قمبيز في تحقيق خطته الجهنمية بالسلم أولًا، فطلب زواجًا سياسيًا من ابنة الفرعون أحمس الثاني إلا أن أحمس لم يخل عليه الأمر واستشعر دوافع قمبيز الشريرة؛ لذلك زوجه من ابنة الفرعون السابق ابريز حتى لا يحدث صراع بين الدولتين، لكن عندما علم قمبيز أنها ليست ابنة أحمس شعر بالإهانة الشديدة وقرر أن يلجأ إلى الخطة البدلية المفضلة لديه أكثر ألا وهي الحرب.
ثغرة في الجيش الفرعوني ستفقدته لذة الانتصار
بدأ قمبيز بتجهيز جيشه وتسليحه بأشد العتاد، وقام بإرسال رسالة مخطوطة إلى الملك أحمس الثاني يأمره بتسليم مصر وإلا سيعلن عليه الحرب، استشاط الفرعون أحمس غضبًا من جرأة قمبيز وقام هو الآخر بتجهيز جيشه للحرب، ولكن للأسف في ذلك الوقت أعتمد أحمس على جيش من المرتزقة وبطبيعة الحال لن يكون لهم ولاء سوى لمن يدفع أكثر، فكانت الثغرة التي سيستغلها قمبيز لصالحه.
خطة قمبيز.. عبور الصحراء وإمدادات وعتاد
في ذلك الوقت كانت هناك مشكلة كبيرة تواجه قمبيز أهم من مواجهة الجيش المصري، ألا وهي “عبور الصحراء” وبالطبع لم يكن لديه دراية بالصحراء تمامًا؛ لذلك فكر بخطة ذكية ضرب بها عصفورين بحجر واحد، فقام بالاستعانة بالعرب الأنباط -هي مملكة عربية أردنية موجودة بشمال الجزيرة العربية- واستغل عدائهم لمصر الذي كان بسبب سيطرة المصريين القدماء على الصحراء من أجل تحصينها، فتحالف قمبيز مع الأنباط وساعدوه على عبور الصحراء بسلام، كذلك أمدوه بالجيش والعتاد اللازم لتحقيق مهمته، وعندما أشرف قمبيز على الاقتراب من مصر مات الملك أحمس الثاني في ظروف غامضة، ومن المرجح أنه قُتل على يد أحد جواسيس قمبيز.
مُلك وحكم بغير ميعاد
تولى الملك بسماتك الثالث حكم مصر بعد وفاة والده ليجد نفسه أمام حرب مهولة بين إمبراطورية عظيمة؛ لذلك فكر بالاستعانة بالأغريق الذين خذلوه وانضموا إلى جيش الأعداء على الرغم من أن قبرص كانت تخضع لحكم مصر، وفي ذلك الوقت كان الملك قمبيز قد عبر صحراء مصر حتى وصل إلى حدود “الفرما” -شمال بور سعيد حاليًا- وهنا بدأت المعركة الكبرى.
ما الذي يجهزه قمبيز للجيش الفرعوني؟
وكان لا بد من اللجوء للحيلة فالحرب خديعة، هنا جاء دور المرتزقة حيث استعان قمبيز بزعيمهم ووعده أن يعطيه جزء من الأراضي المصرية مقابل التعاون معه، فوافق على الفور وأخبره بالتجهيزات العسكرية في مصر ونقاط القوة والضعف في البلاد، كذلك كان يعرف هذا الرجل أسرار الدولة، فأشار عليهم بحيلة تمكنهم من هزيمة الجيش الفرعوني شر هزيمة دون أي مجهود.
قطة تهزم جيش فرعوني
وفي صباح اليوم التالي أمر قمبيز -قائد جيش الفرس- أعوانه بإحضار عدد كبير من القطط تسير وسط صفوف الجيش، ورسم جنوده صور لقطط على دروع الحرب، ولما بدأت المواجهة بين الجيشين في معركة الفارما -بور سعيد حاليًا-، أطلق الفرس القطط تجاه الجيش المصري، وبمجرد أن شاهدوها في ساحة المعركة تراجعوا عن القتال؛ لأن القطط كانت من الحيوانات المقدسة في الحضارة المصرية القديمة، لدرجة أنهم كانوا يعدمون من يؤذي أي قطة، لذا لم يُبلي الفراعنة في هذا القتال بلاء حسنًا وهُزموا هزيمة ساحقة، وقتل منهم ما يقدر بنحو 50 ألف جندي، والسبب قطة.
مصر رسميًا تحت حكم الفرس
هرب الفرعون بسماتك الثالث بعد الهزيمة إلى “منف” وقام بحشد جيشه لمواجهة الفرس، إلا أنه خسر للمرة الثانية وتم أسره وسقطت “منف”، وفي عام 525 ق.م أصبحت مصر رسميًا تحت حكم الفرس، ومن هنا سيتغير مجرى الأحداث تمامًا، وستأخذ القصة منعطفًا آخر، لتبدأ لعنة الفراعنة في إسقاط غضبها على قمبيز وجنوده.
طمع قمبيز لا ينتهي.. رجل يرفض السلام
بعد أن حقق قمبيز حلمه في غزو مصر بدأت مطامعه تزداد في غزو البلاد أكثر، ففكر في غزو مدينة “نبتة” الواقعة في حضارة أرض “كوش” ببلاد النوبة -السودان حاليًا-، وكانت “كوش” في ذلك الوقت من أغنى الحضارات ولديهم ما يكفي ويفيض من الذهب والمعادن، كذلك كانت قوتهم الجسدية فائقة ويمتازون بولائهم للبلاد؛ لذا لم يكن أمام قمبيز سوى الحيلة لدخول هذه الأرض والاستيلاء على الكنوز؛ لذا أرسل مجموعة من جنوده كجواسيس لأرض “كوش” يحملون هدايا لملكهم، ولكن ملك كوش فَهِم مقصد قمبيز ورفض الهدايا وأعلن الحرب عليه.
الطمع قل ما جمع.. بداية الهلاك
أرسل قمبيز حملة مكونة من الآف الجنود لأرض “كوش” حتى يشعل في صدورهم الخوف ويريهم قوته، ولكن الحملة سارت في الصحراء الوعرة لمدة 52 يوم حتى أنهكهم التعب ونفذ منهم الطعام والماء، فعادوا للملك قمبيز يعلنوا عن استسلامهم، ذلك الأمر الذي لم يرض قمبيز أبدًا؛ لذا تزعم حملة أخرى برأسته وخرج لمواجهة الكوشيين، لكن كهنة معبد آمون تنبؤا له بأنه سيفشل في مهمته ولن يصيب خيرًا من هذا الغزو، استشاط الغازي قمبيز غضبًا عندما علم بتلك النبؤة التي يرددها العامة، فقرر أن يزحف على سيوة من طيبة ـالأقصر حاليًاـ لينتقم من هؤلاء الكهنة، ويحرق ويهدم معبدهم ويذبح آمون، أيضًا.
لعنة الفراعنة.. عاصفة من الرمال تبتلع جيش بالكامل
أرسل قمبيز جيش من تسعين ألف مقاتل وصلوا إلى الواحة الخارجة في عشرة أيام، وأقاموا بها استعدادًا لمواصلة الزحف ولكن حدث ما لم يتوقعه أحد، اختفى الجيش بالكامل وكأن الأرض ابتلعته، وذكرت بعض المخطوطات اليونانية أن عاصفة رملية هبت على جيش قمبيز وأدت في النهاية إلى دفن الجيش بالكامل تحت الرمال، وعندما وصلت الأخبار للملك “قمبيز” قال لقائد جيشه: “المصريين قد أصبوا لعنتهم على جيشي، ما هذا السحر اللعين!؟” فقال له قائد الجيش: “إن ما حدث هو لعنة من لعنات الفراعنة، وأنهم منذ القدم يمارسون سحر يصيب كل من يعبث معهم”.
اللعنة لن تنتهي حتى تفتك بالطاغية
أرسل كهنة آمون رسالة إلى قمبيز يقولون بها: “لقد حان موتك أيها الملك الطاغي”، هنا يغضب قمبيز مجددًا ويستعد للذهاب إلى سيوة مرة أخرى وتدمير معبد آمون، ولكن في طريقه إلى هناك وصلته رسالة تقول بأن هناك فتنة بين المستشارين في بلاد فارس، فيقرر قمبيز على إثرها أن يعود لبلاده لتولي زمام الأمور وهنا تصيبه اللعنة، فبينما يركب قمبيز فرسه يصيب فخذه بجرح من سيفه، ولكنه لا يأبه بالأمر باعتباره جرحًا سطحيًا، إلا أن ذلك الجرح يكبر أكثر ويتورم ويصاب قمبيز بالتسمم ليفارق الحياة عام 522 ق.م.
رأي الدراسات الإغريقية
يجيب عن ذلك هيرودوت المؤرخ الإغريقي بقوله:
«رد كهنة آمون عن مصير تسعين ألف مقاتل فارسي جاءوا ليقتلوهم ويحرقوا معبدهم؟ فأجاب الكهنة: لقد أصابتهم لعنة آمون لم يصل جندي منهم إلينا هنا في واحة آمون (سيوة) ولم يعد منهم جندي إلى (الخارجة) حدائـق آمون».
ويواصل هيرودوت الجواب: «لقد ضللـهم أدلاء الخارجة، وقادوا هذا الجيش إلى شاطئ بحر الرمال، وهبت عاصفة عاتية راعدة والجيش مقبل يأكل ويستريح، واشتدت العاصفة واستمرت عدة أيام، كان الجيش خلالها يدور حول نفسه داخل ثورة الرمال، حتى نفذت الأقوات وغرق معظم الجيش في بحر الرمال وأكل الباقون بعضهم بعضًا بالقرعة».
وما زال علماء الآثار حتى الآن يُجرون بحثًا مستمرًا عن جيش الملك قمبيز في صحراء مصر الكبرى، على أمل أن يعثروا على أي دليل يساعدهم في دراسة الأمر، ولكن لم يظهر ما يدل على وجودهم إلى وقتنا هذا، كأن الأرض حقًا ابتلعتهم في جوفها.
التعليقات