
بقلم/ عمرو عبدالرحيم سليمان
ماجستير في التاريخ والحضارة الإسلامية جامعة الأزهر
استقر في كتب التاريخ وصف الخليفة العباسي الأول أبي العباس (ت 136هـ ) بالسفاح، حتى أنه بات يعرف بهذه الكنية في الكتابات التاريخية المختلفة، وأصبح لهذا اللقب معنى ومدلول واحد متداول بين الفئات المختلفة ، وهو:أن صاحبها قاتل سفاك للدماء.
ولكن تختلف دلالة بعض الألفاظ بتغير البيئة والزمن الذي قيلت فيه.
فمثلا، كلمة الشاطر كانت تعني في القديم :الشخص الذي أعيا أهله ومعلمه، أو الشخص غير المستقيم في أفعاله وأحواله([1]) لكن مضمون هذه الكلمة في زماننا الحاضر بالتأكيد اختلفت كليا عن هذا المنعى، بل قد يكون المدلول المتداول لها الآن معاكس لها، فالشاطر الأن هو الشخص المجتهد في دراسته، المتقن لعمله الناجح فيه، وكذلك قد تكون الكلمة متداولة في زمن واحد ولكن لها معنى في لهجة ومعنى آخر يخالفها، بل يعاكس معناها في لهجة أخرى، فمثلا كلمة ثِبْ معناها في لهجة أهل حمير اقعد، ومعناها في غيرها من اللهجات القيام والنهوض. مع أنها نفس الكلمة([2]) ومن هذا نَخلصُ إلى أن مدلول بعض الألفاظ قد يختلف من زمان لآخر ومن مكان لأخر.
ولكن ما هو مدلول لفظ السفاح وما هو معناه؟! تكاد تتفق المعاجم العربية على أن لفظ السفاح يندرج تحت ثلاثة معانٍ، الأول: السفاح، بمعنى الشخص سفاك الدماء المتعطش للقتل، والفتك بالناس([3])، والمعنى الثاني: بمعنى الرجل المعطاء كثير الإنفاق والبذل، وقيل: السفح هو الصب بمعني صب المال وقيل :هو الفصيح ، والمعنى الثالث للسفاح: الرجل القادر على الكلام. ([4])
ويرجع تاريخ لقب السفاح إلى خطبة الخليفة أبي العباس على منبر الكوفة، بعد مبايعته بالخلافة، وكانت لهذه الخطبة رمزية؛ فهي أول خطبة يلقيها الخليفة بعد توليه لمنصب الخلافة، فهي تعد خطبة الملك التي يذكر فيها الخليفة سياسته للرعية، والطريقة التي يسير بها طيلة فترة حكمه، وكان الخليفة أبوالعباس في خطبةٍ قدْ وعدهم بزيادة العطاء ثم قال لهم :” استعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبين”. ([5]) ومن هذه الخطبة أخذ المؤرخون يطلقون عليه لقب السفاح؛ وذلك لأن خلفاء بني العباس جميعًا كانت لهم ألقابٌ رسميةٌ، وذلك منذ عهد المنصور (ت158هـ) فهو أول خليفة مسلم يتلقب بلقب رسمي، ويعممه في مراسلاته مع ولاته، ثم أضحت سنةً لخلفاء بني العباس، وأبو العباس لم يكن له لقب يعرف به طول مدة حكمه، فأخذ المؤرخون هذا اللقب له من خطبه، ولقبوه به في كتاباتهم .
ولكن ما هو المدلول الذي يمكن اسقاطه على الخليفة أبو العباس من هذه المعاني الثلاثة ؟
يأتي ذكر الخليفة لكلمة السفاح في معرض حديثه عن إغداق المال وتوزيعه على أهل الكوفة، ولم يأت في سياق القتل، وسفك الدماء، كما أن الحاكم في خطبته الأولى يجنح إلى طمأنة الرعية، وتسكين مخاوفهم وليس تهديدهم، وهذا هو الذى يتفق مع شخصية أبي العباس، فيذكر الذهبي([6]) في ترجمته، فيقول: إن جوده كان يضرب به المثل ،وأنه لم يكن ليؤخر عطية فرضها لشخص، كما أنه أعطى عبد الله بن حسن بن حسن ألف ألف درهم وقال عنه السيوطي([7]) نقلا عن الصولى : وكان السفاح أسخى الناس، ما وعد عدة فأخرها عن وقتها، ولا قام من مجلسه حتى يقضيها، وقال له عبد الله بن حسن مرة: سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها قط، فأمره بها فأحضرت، وأمر بحملها معه إلى منزله، وفي حديث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول فيه (يخرج رجل من أهل بيتي يقال له السفاح عند انقطاع الزمان يكون عطاؤه المال حثيثاً)([8]) وإذا عدنا لكتب المعاجم واللغة وجدنا ابن منظور([9]) يذكر معنى كلمة السفاح: بالشخص القادر على الكلام، والمعطاء ثم يعقب بقوله: وقد كان السفاح لقب عبد الله بن علي أول خليفة عباسي.
أما عن المدلول الثاني لكلمة السفاح وهي الشخص القادر على الكلام، فأبو العباس صعد منبر الكوفة فقال:
فإن لم أكن فيكم خطيباً فإنني بسيفي إذا جد الوغى الخطيب، وأخذ سيفه في يده ونزل؛ فعجب الناس من بلاغته وإصابته المعنى([10]). وخطب أبو العباس المختلفة تدل على مدى فصاحته وبلاغته، كيف لا؟! وهو رجل من أفصح بيوت قريش.
أما المعنى الثالث للكلمة
(السفاح) فهو معنى لا يتوافق مع شخصيته، التي أحاطتها المصادر التاريخية بهالة من السماحة، والحلم، وحسن الخلق وهذه الصفات لا تتوافق مع المدلول لمعني القتل([11]) كما أن الظروف السياسية للأحداث بعد الثورة العباسية كانت تتطلب كثرة الإنفاق لتأليف القلوب، وجمع الصف، وليس الإكثار من القتل، الذي يؤدي بدوره إلى النفور من الدولة الجديدة، و لكن الذي يمكن أن يطلق عليه هذا اللقب، فهو عمه عبدالله بن علي الذي ارتكب بعض المذابح ضد الأمويين.
وما نخلص إليه أن لقب السفاح لم يكن لقباً رسمياً، إنما هو لقب أخذه المؤرخون من خطبته الأولى في الكوفة، حتى يجعلونه بلقب مثل باقي خلفاء بني العباس، كما أن لقب السفاح جاء في سياق العطاء والإنفاق وليس في سياق القتل، كما أن الأحداث التاريخية الواردة نفت معني القتل وسفك الدماء عنه.
[1] – ابن منظور: لسان العرب ط3، دار صادر بيروت 1414هـ جـ 1 صـ792
[2] – الازدي :جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، ط3 دار العلم للملايين – بيروت 1987م جـ2صـ 763
[3]– نشوان الحميري: شمس العلوم و دواء كلام العرب من الكلوم، تحقيق، حسين عبد الله العمري وآخرين، ط1، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1420هـ – 1999م جـ5 صـ3100.
[4]– الفارابي: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، جـ4 صـ1590: ابن منظور: لسان العرب جـ 2 صـ487 : جـ10 صـ 439
[5]– الطبري: تاريخ الأمم والملوك، تحقيق مصطفى السيد، و طارق سالم، المكتبة التوفيقية، القاهرة د- ت جـ4 صـ38 ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت 1417هـ – 1997م جـ5 صـ9 .
[6]– سير أعلام النبلاء، دار الحديث، القاهرة 1427م – 2006م، جـ6 صـ239 .
[7]– تاريخ الخلفاء، تحقيق أحمد الدين الدمرداش، ط1، مكتبة الباز، مكة المكرمة 1425هـ – 2004م صـ192 .
[8]– أبو نعيم: كتاب الفتن، تحقيق سمير أمين الزهيري، ط1، مكتبة التوحيد، القاهرة، 1422هـ – جـ1 صـ402.
[9]– لسان العرب جـ2 صـ 486.
[10]– صلاح الدين بن شاكر، فوات الوفيات،ط1 تحقيق إحسان عباس دار صادر – بيروت1973م جـ2 صـ215.
[11]– شاكر مصطفى: دولة بني العباس، ط1، وكالة المطبوعات، الكويت 1973م جـ1 صـ188 .
التعليقات